وأنا فى طريقى كل أسبوع لنقل الخلايا الجذعية التى تحيينى من جديد لا أفكر إلا فى العشرة سنتيمترات التى تخترق جسدى من نخاع أجساد المتبرعين، ممن أرسلهم الله لى ليمنحونى جزءا مهما من أجسادهم لا يعرفون كم هو مهم بالنسبة لى. كم يحتاجها كل جهاز معطل فى جسدى لكى تعيد تشغيله، وكم ترسا ستقوم هذه العشرة سنتيمترات بتشحيمه ليتحرك من جديد، كم كابسا ستضعه فى فيشته، كيف يتلهف لها جسدى باعتبارها رمق الحياه؟، وما أن تخترق العشرة سنتيمترات جسدى أشعر ببرودة ورطوبة تسرى فى عروقى وأسبح مع عذوبتها على مدار ساعة كاملة أخترق معها محطات معطلة فى أوردتى وهى تدفع بدماء طازجة فى أوعيتى الدموية بكل قوتها لتفتت تجلطات دمائى المتصلبة، وتسمح بسيلان الدماء تشق طريقها نحو مناطق أخرى لتتجدد وتصحو. وأظل سابحة معها نستكمل مسيرة رطبة، أتنفس معها رحيق حياه لم أذقه من قبل، وتتشعب العشرة سنتيمترات وترمح فى كل الاتجاهات، فتترك فى كل ركن تزوره جزءا صغيرا من رمقها، قد يكفى (كتصبيرة) لتشحيم ماكينة أو تشغيل عطل حتى لو بشكل بطىء، على أن يحصل على المزيد بعد أسبوع، هو فقط يأخذ جرعة تكفيه للبقاء حيا. وتتوالى الأسابيع وربما الشهور ونظل مستمرين على امتصاص رمق الحياة من أجساد متبرعين، فلا نعرف لا أنا ولا طبيبى إلى متى ترتوى هذه الأركان والأجهزة والأوعية؟. إلى متى تنصلح ويتم تشحيمها وتزييتها بالكامل؟. إلى متى تقول اكتفيت؟، كل ما نعرفه أنها تنتظر الرمق أسبوعيا حتى أصبح إدمانا لا يمكن أن تحيا بدونه، وحينما تخلى عنى المتبرعون طوال شهر لم نجد رحيما واحدا يتبرع لى. عادت الأجهزة والأوعية إلى التوقف والتباطؤ فى العمل حتى شارفت على الانهيار، ولكنى طوال مثولى لعملية نقل الخلايا من المتبرعين أفكر فى كل متبرع أحصل منه على نخاعه، أهم جزء فى جسده، وأتساءل ماذا سيعطينى هذا الجسد من صفاته، عصبية، أنانية، تسامح، غرور، مودة، خوف، قوة، بالطبع سأحصل على كل هذا وأكثر، فدمائى اختلطت بنخاعهم، وهذا ما يفسر تعبى وتوترى وسخونة جسدى بعد كل عملية نقل أخضع لها، فهذه العشرة سنتيمترات الغريبة تخترق صفاتى وروحى وهويتى لتمنحنى شخصا آخر، يعيد إلى حياتى بفضل الله أولا، لكنه يمنحنى جزءا من حياته. وتعددت الشخصيات داخل روحى فتغيرت كيمياء دمى، لم أعد أتحمل التوتر والخوف والقلق وما أن تنتابنى تلك المشاعر إلا ويسرع جسدى للتحول، إما بالاغماء أو ضيق التنفس، وأسقط صريعة رد الفعل الفجائى، فبقدر ما يحيينى نقل الخلايا إلا أنه يجعلنى أعيش على هامش حياة، فلا زال علاجا تجريبيا أحصل منه على ما يعيدنى للحياه مرة أخرى، حتى وإن تعددت الحيوات والصفات والهويات بداخلى، فيكفينى أنى سأحصل على المزيد والمزيد من بعض صفات الرحمة والإنسانية التى وهبها الله لكل متبرع وخصه بها، لذا قد دفعه فى طريقى للتبرع بجزء من حياته، فكما اصطفانى بمرض مزمن، اصطفاه بنعمه الرحمة، وجعله سببا لإعادة حياه لجسد متهالك، فطوبى لكل متبرع وهنيئا له بمكانته عند الله. لمزيد من مقالات ناهد السيد