صحيح أن جوهر التراجيديات إنها استبصار في المستقبل، استبصار يباعد عنا، ويمنع تخلينا عن المستقبل بإدراكنا الحكمة التي تتولد من المعاناة، وصحيح كذلك أن سؤال الرؤية التراجيدية، هو دائمًا ما يعبر عن صرخة التعاسة الإنسانية وهي تنادي الجواب المباشر كي تسترد عافيتها، مهما تكن درجة الاستحالة التي يكون عليها العالم في زمنه التاريخي والحضاري؛ إذ المسعى الذي يطرحه السؤال، كيف يمكن أن نغير وجه العالم؟. إن سؤال الرؤية التراجيدية يقف على أنقاض أحداث المعاناة، وعند بوابة عالم المستقبل؛ لذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي موضوع تأمل ودراسة مجموعة من المسرحيين في منتدى بعنوان «حول المسرح والتراجيديا وأحداث 11 سبتمبر»، الذي دعت إليه مجلة المسرح الأمريكية، شارك فيه عدد من كبار المسرحيين المشتغلين بالصناعات الثقافية الإبداعية في الجامعات الأمريكية، بالإضافة إلى بعض الشخصيات من ذات التخصص في جامعات المكسيك وألمانيا وأيرلندا، وذلك تجاوبًا مع مفهوم التراجيديا في سياق هذه الأحداث التي تغير وجه العالم، ولمخاطبة الوقائع التراجيدية التي يجب عليهم مواجهتها، وتحديدًا الكشف عن المعاناة التراجيدية بين الثقافة كامتلاء روحي، وبين الممارسات السياسية المتحالفة مع الخواء الروحي والاجتياح بالقوة المادية الطاردة لكل القيم الإنسانية، وذلك فرضًا للسيطرة. ضمت وثائق هذا المنتدى ستًا وعشرين مداخلة موقعة من أصحابها، منها مداخلة «آونا تشودري» من جامعة نيويورك، التي تؤكد أن الوهم المتغطرس بالسيادة المجردة والبعيدة والمرئية، يعد أهم عنصر في التراجيديا التي ألمت «بالبرجين»، وآمل أن نكون قد خرجنا بعبرة وعظة من سقوط «البرجين» سقوطًا عنيفًا، وهي عبرة وعظة تعرف في التراجيديا الكلاسيكية بمبدأ سقوط العظماء. أصابت «آونا تشودري» في رصدها بأن سقوط » البرجين« هو قمة المعاناة، ومن فوق أنقاضهما تبدى طرح سؤال الرؤية التراجيدية: ترى إلى أين سيمضي العالم من قلب هذه الأحداث؟ إن شرط التراجيديا ليس نهايتها؛ وإنما شرطها الصحيح هو مساحة وقدر وكثافة المعاناة التي تعرضها، وتبلغ حدًا من الزخم والحدة، حتى إنه ما من نهاية يمكن أن تمحو انطباع هذه المعاناة الهائلة من الأذهان، فإذا ما تساءلنا: ترى هل يمكن أن يمحى حدث «البرجين» من الذاكرة؟ فلا يمكن أن تكون الإجابة أن قتل «بن لادن» و«الملا عمر» وغيرهما يساوي، أو باستطاعته أن يرفع المعاناة التراجيدية التي تشقي باستمرارها المرعب الذاكرة، فعلى القياس لا يمكن أن يمحو فقأ «أوديب» لعينيه معاناة الفعل التراجيدي، بقتله لأبيه ومضاجعته لأمه، إن تعظيم تأثيم الخطأ التراجيدي يعني أنه لا يعدله عقاب، إذ ما ينتج منه من معاناة هائلة، وعذابات مذهلة لا يبررها قصاص، ولا تلغيها أي أحكام وذلك لأن التراجيديا تبنى أفعالها وأحداثها على استحالة المراجعة، ولا تعرف المصالحة، وأيضًا لا تقبل المساومة، وذلك لأن قيمتها أنها محنة نستبصر من خلالها المستقبل بقدر إدراكنا للحكمة من معايشة أحداثها؛ لذا فإن «آونا تشودري» على حق فيما أعلنته عن أملها في إدراك العظمة والحكمة من معاناة «السقوط»، وذلك دفعًا لمستوى الوعي، امتلاكًا لأدوات القطيعة مع العماء مستقبلاً. أما «ديانا تيلور» فإنها في مداخلتها تحاول القبض على الواقع، بإعادة ترتيب الأحداث على نحو يتيح فهم ما لم يفهم، فتتخذ من البناء التقليدي للتراجيديا إطارًا لهذا الترتيب، من حيث البداية والوسط والنهاية، فالبداية للحدث التراجيدي- كما ترى- ليست على النحو الذي بدأ به الحدث، فهي تتساءل: «هل يبدأ الحدث التراجيدي -حقًا- من الحادي عشر من سبتمبر؟ قد يقول بعضهم إنه تم اختطافنا قبل وقت طويل من ذلك التاريخ، ربما مع بداية الخريف السابق عليه، عندما خرجت الانتخابات عن مسارها «الطبيعي». إن «ديانا تيلور» تحفر لتقرأ وقائع وممارسات أحداث مفتوحة وصارخة على خريطة المجتمع الأمريكي، تراها على صلة بامتدادات الحدث التراجيدي، كإشارتها إلى الخلخلة التي أحدثتها الممارسة السياسية لمصداقية إجراءات فحص بطاقات الانتخابات الأمريكية لمنصب الرئاسة. ومن الواضح أن «ديانا تيلور» ترتكز في بنائها للأحداث على الكشف عن ممارسات مشخصة في المجتمع الأمريكي، تستجيب لما يعرف في بناء التراجيديا بالاعتداء الجائر أو الانتهاك أو الاغتصاب لحقوق الآخرين، والذي يشكل أحد عناصر المعاناة. وتتوالد إشارات «ديانا تيلور» لإخفاقات ممارسات في المجتمع الأمريكي تعريها في امتداداتها ماضيًا وحاضرًا: «فالبنود المهمة على الأجندة الوطنية، مثل تحسين التعليم وغيره، قد تبخرت، والضحايا ظلوا دون حصر، مع أنه تم التعرف عليهم، وسوف يزداد الضحايا عددًا كل يوم مع صدور تشريعات مناهضة للإرهاب والعواطف المعادية للمهاجرين، وقد يوضح آخرون أننا كنا في طريقنا إلى صدام حتمي منذ عقود مع الدول الإسلامية المنتجة للنفط، هل المواطن المدني من بين الضحايا المستهدفين؟». إن «ديانا تيلور» تعترف -على المجاز- باستمرار وامتداد الممارسات التي يغيب عنها مفهوم حقوق الآخرين، وتفتقد القيم الإنسانية، ومعنى حياة الناس وموتهم على السواء؛ بل تكاد تتفق «ديانا تيلور» مع «آونا تشودري» في أن فهم العظة، وإدراك الحكمة لن يأتيا من النهاية؛ وإنما من فعل «السقوط ذاته»، إذ ترى «ديانا تيلور» أنه «بالنسبة إلى النهاية، يبدو أن لا شيء مؤكدا، إلا أن النهاية لن تكون سريعة، ولا معنى لها، ولن تطهرنا». وفي سياق رفضها تطرح بديلاً يخالف عنوان المنتدى؛ إذ ترى: «ربما كانت اللغة العربية، لا التراجيديا، هي اللغة التي نحن في حاجة إلى فهمها، حتى نفهم القضايا والمخاطر». وبهذا المعنى فإن «ديانا تيلور» ترفض مبدأ الصدام الحضاري، وتؤيد فكرة الحوار الحضاري، فدعوتها إلى ضرورة فهم اللغة العربية تعني محاولة فهم حصيلة ما يمارسه أو يتداوله أو ينتجه أو يفعله أصحاب هذه اللغة، أي حصيلة مفاهيمهم ومناهجهم ووسائلهم وعلاقاتهم بقيمهم، أي فك الحصار عن مساحات الفهم والاستيعاب، ورفض الإقصاء، وتغذية الخلافات. إنها دعوة إلى التواصل والتداول، تتطلب الاعتراف بحقوق الآخرين دون الاعتداء الجائر بالقوة المادية استهدافًا إلى الاستتباع كآلية لإدارة الوجود، أم أن القوة تبحث عن أهدافها؟ لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى