كل انتفاضة لها ما يميزها وما يمنحها هويتها الخاصة وطابعها المميز، ولكل منها سلاحها وأدواتها ومفرداتها وأساليبها وأهدافها وغاياتها ورموزها وقادتها، ولو أنها تقاطعت في بعض الأحيان في الشكل والأسلوب وفى الأداة والوسيلة، نظرا لقلة الخيارات، ومحدودية الأدوات، نتيجة الإجراءات الأمنية المشددة، والمتابعة والملاحقة الدقيقة، فضلا عن عمليات الاعتقال الواسعة جدا، والقمع الشديد المتواصل بقصد وقف الانتفاضة وإنهاء فعالياتها، إلا أن الفلسطينيين في انتفاضاتهم السابقة والجديدة، لا يعدمون وسيلة، ولا يعلنون اليأس والاستسلام، بل كانوا دائما يبتكرون الجديد، ويتواءمون مع الواقع، ويختلقون وسائل تتناسب والظروف، وتصمد في وجه التحديات، وتعجز سلطات الاحتلال عن محاربتها والتصدي لها. سجلت "انتفاضة العودة" تطورا نوعيا غير مسبوق في المقاومة الشعبية، بحسب رؤية الباحث البريطاني، في مركز لندن لدراسات المستقبل، جونيور سيفر، حيث إن القضية عادت مرة أخرى إلى "حضن الشعب الفلسطيني"، منذ انتفاضة الحجارة الأولى 1987، وأن الشعب الفلسطيني، قرر أن يقود مستقبله بعيدا عن السياسة، واختار تحدي العودة الكبرى للوطن المحتل. فقد استحدثت المقاومة الفلسطينية، أداة جديدة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، علي حدود قطاع غزة، هي أشبه بصندوق بريد يطير برسائل المتظاهرين ويلقيها حيث يتحصن الجنود الإسرائيليين، وفي الميدان ذاته، تجهز رسائل أكثر سخونة تحملها هذه الطائرات الورقية، تطلق في الهواء ثم تقطع حبالها لتسقط علي أحراش زراعية تحيط بمواقع عسكرية إسرائيلية. طائرة من ورق وخيطان هكذا تحولت لأداة مقاومة. هذا السلاح الجديد الذي ابتكره الفلسطينيون، يقلق الأوساط الإسرائيلية ويضعها أمام ظاهرة لم تواجهه مثلها من قبل. وقد أصبحت الطائرات الورقية رمزا لإبداع المقاومة الفلسطينية. وذكرت شبكة "كان" الإخبارية العبرية، أن محاولات إسرائيل في مواجهة الطائرات الورقية الحارقة التي يطلقها فلسطينيون من غزة، باءت بالفشل وقالت الشبكة في تقرير لها: "إن نسبة اعتراض الطائرات الإسرائيلية المسيرة للطائرات الفلسطينية الورقية الحارقة منخفضة جدا، وباءت محاولات إسرائيل لاعتراضها بالفشل"، ويستخدم الجيش الإسرائيلي، الطائرات المسيرة بالتحكم عن بعد، والتي تحمل كاميرات وأدوات حادة لاعتراض الطائرات الورقية التي تطلق من غزة، بيد هذه التكنولوجيا المتطورة، لم تتمكن من اعتراض الطائرات الورقية البدائية إلا بنسبة منخفضة جدا، حسب التقرير. يأتي هذا التقرير، في ظل استمرار إطلاق المتظاهرين الفلسطينيين المشاركين في "مسيرات العودة" الطائرات الورقية التي تحمل مواد حارقة، وتسببت بإشعال آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية التي استولت عليها إسرائيل في محيط قطاع غزة. صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية وصفت الابتكار الفلسطيني بأنه "هجوم الطائرات الورقية"، ووصفته بأنه "إرهاب جديد قادم من غزة"، وقالت إنه تسبب بأضرار لمساحات واسعة من الأراضي الزراعية. ونقلت الصحيفة، عن يعكوف جاباي قائد منطقة النقب الغربي في خدمات المطافئ، قوله، أن الحديث يدور عن هجوم تسبب بإحراق المئات من الدونمات الزراعية، وأضاف، أنهم عادة ما يكونون في حالة استنفار في موسم الحصاد الذي يأتي في الصيف، لكن مع ظاهرة الطائرات الورقية الحارقة القادمة من غزة، زادت حالة الاستنفار بشكل كبير. وفي ظل عجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي، عن مواجهة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة التي تطلق من غزة، وتتسبب يوميا بحرائق في التجمعات الإسرائيلية في "غلاف غزة"، توعد وزير الأمن الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان، مطلقي الطائرات والبالونات، قائلا: "إذا اعتقد أحدهم أنه من الممكن مواصلة روتين الطائرات الورقية والحرائق كل يوم، فإنه على خطأ". مما لاشك فيه، أن الشعب الفلسطيني يمتلك القدرة على العودة إلى صدارة الأحداث وموقع الاهتمام، حينما تشتد عليه خيوط المؤامرات أو يشعر بأن قضيته هناك من يعبث بها، ويحاول أن يغير ملامحها. ومن هنا كان الإبداع الشعبي من خلال "انتفاضة العودة"، والتي تقول إن اللاجئين خط أحمر وحقوقهم لا يسمح لأحد العبث بها، والقدس العاصمة الأبدية لفلسطين، هذه أهداف هذا الحراك الذي يجب أن تكون أهدافه إستراتيجية لا تكتيكية. أعتقد أن النضال السلمي الفلسطيني، سيكون عنوان المرحلة المقبلة، بعد فشل المفاوضات، وهذا سيرهق إسرائيل ويستنزفها، لأنها ستدان أمام العالم لاستخدامها القوة المفرطة أمام العزل. لمزيد من مقالات ابراهيم النجار;