كان عام 2017 هو الذكرى المائة لما كان يطلق عليه ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى فى روسيا، أما عام 2018 فهو الذكرى المائتين لميلاد كارل ماركس الفيلسوف الذى ارتبط اسمه بالاشتراكية. ولقد احتفلت المدينة التى ولد بها كارل ماركس يوم الخامس من مايو الماضى بذكراه بإزاحة الستار عن تمثال له وهو الأول من نوعه فى الجزء الغربى من ألمانيا. فترى هل من الممكن الإطلال على الأزمات الاقتصادية حول العالم اليوم أو على الاشتراكية أو على القرن العشرين دون التساؤل عمن هو كارل ماركس؟ ومن هو رفيقه وشريك مشروعه فريدريك إنجلز؟ فلقد ولد (كارل ماركس) عام 1818 و(فريدريك إنجلز) فى عام 1820 فى غرب ألمانيا.أى أنهما ولدا قبل اكتشاف مرض السكر وهرمون الإنسولين والمضادات الحيوية والسيارات! أى منذ نحو 200 عام. ورغم هذا فلقد عاد الاهتمام بهم متصاعدا حول العالم ، فلم يكن الرجلان ثائرين فقط بل كانا عالمين، فلا يمكن لأى من جامعات العالم أن تتجاهل أعمالهما ولا يستطيع أى دارس للسياسة أو الاقتصاد أو علم الاجتماع فى شمال العالم الاقتراب من تلك العلوم إلا باقتحام أعمال ماركس وإنجلز. بل إن إنجلز يصف إضافات ماركس كالتالى فيقول (لقد اكتشف ماركس القانون الأعظم لحركة التاريخ: فالتاريخ كله هو تاريخ الصراع الطبقي. بل ويضيف: (إن كل التصورات والأفكار يمكن تفسيرها بالظروف الاقتصادية ومن العلاقات السياسية والاجتماعية التى تحددها الظروف الاقتصادية). كانت الثورة الصناعية التى تفجرت منذ ثلاثة قرون هى ما خلق الرأسمالية ونقيضها الطبقة العاملة وبالتالى ( وعى ) الطبقتين المتناقضتين فى المصالح. وعندما نتحدث اليوم عن الطبقة العاملة فإننا نغفل تماما كيف كان ظهورها ظاهرة اجتماعية مأساوية ضخمة، ما كان يمكن الهروب منها. فلقد اتسعت المدن كناتج مباشر للتوسع الضخم فى الصناعة فى مختلف نواحى الحياة وامتلأت تلك المدن الجديدة بجيوش من الفقراء المعدمين ينتقلون من الريف للمدينة فيملأون تلك المدن المتسارعة الاتساع بجيش من المعدمين الحفاة الجوعى لا يجدون ما يسد رمقهم الا بيع قوة عملهم لساعات لا تنتهى من العمل المتواصل. كان العمل يتم فى الفابريكات والمصانع وراء انواع مختلفة من الماكينات. كان الجوع يفرض بيع العمل على الجميع الأطفال النساء الصغار والشباب والكبار. أدخلت الظاهرة تعبيرات لغوية جديدة كالبروليتاريا، وتحولت الظاهرة إلى معاناة إنسانية للملايين، صاحبها معاناة فلسفية دائمة للبعض، يتأملون كيف يمكن الخروج من دائرة الفقر الهائلة التى صاحبت ظهور الطبقة العاملة. عاش كارل ماركس فى لندن نحو 43 عاماً من حياته بعد أن اضطر للانتقال إليها فى أغسطس 1849 بعد ترحيله من باريس وهو فى الحادية والثلاثين من عمره. ولم تكن تلك المرة الأولى التى تتدخل فيها السلطات للتخلص من ماركس وإبعاده، فلقد تم ترحيل الشاب (الأشول) من باريسلبروكسل ومن بروكسلللندن. لم يعمل ماركس خلال حياته فى لندن إلا كناشر أو ككاتب وكمراسل للصحف لتغطية جزء من نفقاته الشخصية ونفقات أسرته. كان إنتاج ماركس الفكرى غزيرا ومتنوعاً وكمثال فلقد كتب ماركس من لندن نحو 500 مقال لجريدة النيويورك تريبيون (ولقد كانت تلك أوسع الصحف الأمريكية توزيعاً حينها فلقد وصل توزيعها فى الخمسينيات من القرن التاسع عشر (1850) إلى مائتى ألف نسخة (200000 نسخة). واستمرت مقالات ماركس فى التريبيون 10 سنوات تقريبا من أغسطس 1852 لبدايات عام 1862. اقتحم ماركس مجال الاقتصاد السياسى فى بريطانيا؛ فكتاباته قبل وصوله إلى بريطانيا كانت أقرب إلى الفلسفة من الاقتصاد ولكنه فى لندن اقتحم مجال الاقتصاد بعمق، فلقد كانت لندن قلعة من قلاع الثورة الصناعية، وكانت تحقق من الثروة والتغييرات فى مائتى عام ما لم تعرفه البشرية فى تاريخها كله ولكن صنع الثروة لم يوازه إلا صنع البؤس والاضطهاد. عاش الشاب فى لندن فقط وفى عزلة تقريباً إلا من دوائر المثقفين الألمان والكتب والصحف والتنقيب وراء حقائق الأرقام. فلقد قضى أغلب حياته بين حجرة مكتبه أو بين مكتبة المتحف البريطانى التى كان يصل إليها صباحا قبل رجال المكتبة، فيجدونه واقفاً على أبوابها بإصرار مرتدياً معطفه الثقيل وحذاء يقتحمه صقيع الأرض الباردة. كان مبنى المكتبة الدافئ ملاذاً للرجل فى لندن الباردة التى يلفها الضباب والتى عرف فيها هو أسرته المعاناة، فلقد عاش لسنوات فى حى سوهو الفقير حينها فى شقة صغيرة هو وزوجته وأولاده. تأثر كارل ماركس بفيلسوف سبقه وهو هيجل وكان ماركس ممن يطلق عليهم (الهيجليون الصغار)، وكان هؤلاء دائمى البحث عن تفسير لحركة التاريخ وماهيته. وهكذا تكونت جنينيات فكر ( المادية التاريخية) وهكذا فإن الكاتب والمفكر الاشتراكى المصرى أحمد القصير يلخص الأمر فى كتابه ( الماديه التاريخيه: التكوينات الاجتماعية والجدل عند ماركس ) كما يلى ( كانت نقطة البدء عند ماركس هى البحث عن العلاقة الاولية التى تميز المجتمع الانساني. اى تلك العلاقة التى تلتقى فيها كل الظواهر المتباينة فى الحياة. فإن المجتمع وكل شيء يتعلق بتاريخه هو نتاج جمع غفير من الأفراد رجالا ونساء، وتصرفات الافراد متغايرة الى اقصى حد، ولكن مهما يكن التباين فإنهم يعملون شيئا واحدا مشتركا هو الإنتاج الاجتماعي. ومن هنا فإن ماركس اعتبر العمل الإنتاجى هو العلاقة الأولية بين الطبيعة والإنسان. وهذه السمة النوعية التى تميز الحياة الاجتماعية.هى ما جعلته يقول إن تفسير الحياة والتطور يجب البحث عنه فى الاساس المادى والانتاجى للحياة الاجتماعيةة.ولهذا فلقد اعتبر ان علاقات الانتاج هى العلاقة الاولية والاساسية التى تتحدد وفقها العلاقات الاخري. كان إنجلز إذن هو من أرسى آليات جمع تراث ماركس وتوثيقه حتى وإن كان كل من حضروا جنازة ماركس فى مقبرة هايجيت فى شمال لندن لم يتجاوزوا 13 فرداً، وكان إنجلز أحد هؤلاء ال13 فرداً. توفى كارل ماركس فى عام 1883 ومات إنجلز بعده بعشرة أعوام تقريبا فى عام 1894. كانت تلك العشرة هى أعواما ثمينة فى استكمال المشروع الفكرى الكبير الذى ابتدأه الرجلان فى مطلع شبابهما، وعليه فلقد جمع إنجلز كتابات ماركس غير المكتملة وأصدر المجلدين الثانى والثالث (لرأس المال). وعليه فرغم أن كتاب رأس المال يحمل اسم ماركس فإن جزءيه الثانى والثالث يعدان عملاً مشتركا. لمزيد من مقالات ◀ د. حازم الرفاعى