كانت الضغوط الاستعمارية البريطانية العامل الأهم فى تقويض مشروع محمد على لتصنيع مصر. تظهر ضخامة هذا المشروع من أن أعداد العمال فى مصانعه قدرت بنحو 230000 عامل، دون حساب العاملات بالغزل فى المنازل لصالح هذه المصانع، التى ضمت مصانع كبرى ضم كل منها 1500 عامل فأكثر. ومقارنة بعدد سكان مصر الذى قدر بنحو 3٫906 مليون نسمة فى عام 1840 فإن نسبة المشتغلين فى مصانع محمد على تصل الى 6 فى المائة من عدد السكان وهى نسبة تبلغ أضعاف النسبة الراهنة!! وهذه الحقيقة المحزنة لا يفسرها مجرد التقدم التكنولوجى الذى يقلص قوة العمل الصناعية، وإنما يكمن تفسيرها الأهم فى تراجع تصنيع مصر. وسوف أعود الى العوامل الداخلية التى دفعت الى توالى سقوط مشروعات تصنيع مصر، بقيادة محمد على ثم بقيادة طلعت حرب وجمال عبد الناصر. لكن العوامل الخارجية وأقصد بها ضغوط قوى الاستعمار والهيمنة تبقى عاملا حاسما، بل العامل الأهم. وأبدأ بدور الاستعمار فى ضرب مشروع محمد على للتصنيع، مستندا بالأساس الى المادة التاريخية الموثقة فى كتاب عفاف مارسو عن مصر فى عهد محمد على. وأسجل، أولا، ما أوردته بمقالى السابق بأنه حين تسربت أنباء المصانع الحربية المصرية إلى الباب العالى، بعث بفرمان فى عام 1810 يحذر فيه الوالى محمد على من أن إنشاء ورش تصنيع الرصاص والرش يعد أمراً ممنوعاً، لأن العثمانيين يحتكرون هذه المواد!! لكن الفرمان المذكور تم تجاهله مثل غيره من أوامر الباب العالى الأخرى التى لم تعجب محمد على، بل وأنشأ المزيد من المصانع ثم قام بتوسيعها. ومع تلميحات محمد على إلى الاستقلال فى عام 1834 تلقى تحذيرات من الدول الكبرى بعواقب مميتة ستصيبه من جراء هذا، وتأكيدات بأنها لن تسمح به. وبوجه خاص، فإن بريطانيا لم تر مصلحة لها فى تحطيم الإمبراطورية العثمانية، وهو ما اعتبرته النتيجة الحتمية لأى دعاوى مصرية للاستقلال، ورأت فى مشروع محمد على للاستقلال والتصنيع خلقا لمنافس قوى ومحتمل ولأمن طرق التجارة البريطانية، تتنامى صناعته فى مجال المنسوجات، ويسيطر على الأسواق المحتملة التى كان البريطانيون يتطلعون إليها. ورأت مثل هذا المنافس خطرا ويجب أن يختفى، أيا ما كانت التسهيلات التى عرض تقديمها والشروط التى كان على استعداد لقبولها. وتحت ضغط بريطانى صدر فرمان عثمانى فى ديسمبر 1835 أعطى المصدرين البريطانيين مزايا واسعة حينما ألغى الاحتكارات فى الشام؛ وعملت بريطانيا على فرض هذه المعاهدة بالقوة على مصر. ورغم تعارض المصالح، قامت الحكومة الفرنسية، بالتنسيق مع الحكومة البريطانية بإنذار الباشا بألا يمضى فى طريق قد يؤدى إلى الأخطار والدمار. والأمر أن المصالح الأهم توحد قوى الاستعمار. وثانيا، أن بريطانيا بدأت بتجريد الوالى من احتكاراته، حتى لا تتوافر لديه الأموال التى تكفى لتمويل جيش ويتم بالتالى اقتلاع أسنانه. وكان هذا هو المنطق الذى قدمته إلى الحكومة العثمانية، فكانت المحصلة معاهدة بلطة ليمان فى عام 1837، التى منعت محمد على من المضى فى حماية صناعاته الوليدة، وسمحت بتدفق غير مقيد من السلع الغربية الرخيصة. ولم يكن إلغاء الاحتكارات أهم ما تضمنته المعاهدة، وإنما تقويض حماية الصناعة المصرية الوليدة، بينما لم تقم صناعة فى أوروبا فى ذلك الوقت دون تعريفات جمركية حمائية لدعم الصناعة. وعندما طبقت المعاهدة على مصر بعد عام1840، أعطت للتجار الأوروبيين حرية لا قيود عليها فى السوق، من خلال الامتيازات فأعطتهم سيطرة فعلية على السوق، وشجعت تدفق السلع البريطانية الرخيصة، بينما لم تكن الصناعات الوليدة قادرة على المنافسة دون حواجز حمائية. فصارت مصر موردة للمواد الخام إلى أوروبا، ومستوردة للسلع الأوروبية تامة الصنع، وتدنت مصر إلى مرتبة مشارك وتابع فى السوق العالمية الأوروبية، وهو ما أضعف أى دعاوى للاستقلال الاقتصادى. وكانت بريطانيا على استعداد لقهر مصر، وبصفاقة أعلنت حكومتها للحكومة الفرنسية: أن قهر إنجلترا لمحمد على إذا ما نشبت الحرب قد يبدو غير عادل، لكنه يجب ألا تقف أي أفكار عن العدالة فى طريق مثل هذه المصالح العظيمة والعليا!! وثالثا، أن محمد على كان يمثل فى عشرينيات القرن التاسع عشر تهديداً للاستعمار البريطانى بالتوسع فى قواته البحرية؛ فكان تدمير أسطول مصر فى معركة نوارين هو الرد. وفى العقد التالى ظل محمد على مصدراً للقلق فى شرقى البحر المتوسط والبحر الأحمر بسيطرته على حركة السفن، والتجارة الدولية، وتعريفاته الجمركية الحمائية التى كان مقدراً لها أن تغلق الأسواق فى وجه البضائع البريطانية. وفى وقت كانت بريطانيا فى أمس الحاجة إلى أسواق جديدة تحكم محمد على فى الطريق إلى الهند. وانعقد مؤتمر لندن فى 15 يوليو 1840، ووقعت الدول الكبرى لائحة ميتيرنيخ حول التهدئة فى الشرق الأوسط!! مع بروتوكول غير معلن لإجبار والى مصر على القبول بشروطها. وبينما أصدرت الحكومة الفرنسية بيانات شديدة اللهجة تأييداً لمحمد على فإنها لم تفعل شيئاً!! وعندما ظهر الأسطول البريطانى خارج نافذة حجرة نوم محمد على فى الإسكندرية، أيقن الوالى أنه قد هزم، وقرر يركز على جعل مصر مملكة وراثية لأسرته. وقضت معاهدة 1841، التى اضطر الباشا إلى قبولها، بتجريده من كل فتوحاته باستثناء السودان وولاية مصر طوال حياته، وأن تكون الولاية من بعده، لأكبر الذكور سناً من عائلته. وأختم، بأن إسقاط مشروع محمد على من أجل الاكتفاء الذاتى والتصنيع، عندما أنقص الجيش المصرى إلى 18 ألف رجل بدلا 100 ألف رجل، فتوقفت كل الصناعات المتصلة بالحرب، التى شكلت نقطة انطلاق كثير من الدول على طريق التصنيع. ومع تقويض حماية الصناعة المصرية، تحولت مصر إلى سوق لتصدير القطن إلى أوروبا خاصة بريطانيا، ليجرى تصنيعه وبيعه لمصر!! ومع تدفق رأس المال الأجنبى والسلع الأجنبية حرمت مصر من أى استقلال مالى واقتصادى، وكانت سياسات الهيمنة السابقة تمهيدا لسياسات الاحتلال اللاحق فى ترويج فرية أن التصنيع جالب لخراب مصر!. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم