يحتل فرع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بقفصة مبنى فى منطقة خلفية بوسط المدينة. لا يطل على الشارع الرئيسى الذى يشق عاصمة الولاية الواقعة على بعد نحو 350 كليو مترا من العاصمة. وهو الشارع الذى تتزاحم على واجهته معظم مقار الإدارة والأعمال والتجارة وحتى الأحزاب. وفى مقدمتها المقران الأكثر ارتفاعا وتصدرا لشركة فوسفات ولمركز تجارى للسلع الغذائية تمتد سلاسله من العاصمة إلى مختلف المدن التونسية. وعندما قصدنا فرع الهيئة (قبل نحو عشرة أيام من اقتراع 6 مايو فى أول بلديات بعد الثورة حيث تخوضها 97 قائمة منها 39 حزبية و49 مستقلة و9 ائتلافية تتنافس على 13 مجلسا بالولاية) وجدنا أعمال تهيئة الطرق المحيطة به جارية، وعلى نحو يعرقل سهولة الوصول اليه. وكأن الأسفلت يسابق بدوره اللحظات الأخيرة كى يصل قبل موعد الاستحقاق الانتخابي. فى الطابق الثانى من المبنى جلس عضو الهيئة الفرعية «نجم الدين خريف» (تتكون من رئيس وعضوين) خلف جهاز كمبيوتر. وعندما سألناه عن إحصاءات تتعلق بأعداد الناخبين المسجلين بالولاية لم تكن حاضرة عنده تماما. لكن البيانات المسجلة على موقع الهيئة من العاصمة أفادت بنحو 187 ألف ناخب. جولة سابقة بالمدينة عاصمة الولاية دفعتنا لسؤال «نجم الدين» عن تقييمه لحملة انتخابية بدت «باردة»، فأجاب، وهو الذى اشرف من قبل على الانتخابات التشريعية والرئاسية هنا خريف 2014، بأن اهتمام الناس أقل من ذى قبل لأنهم لمسوا أن الانتخابات السابقة لم تغير من معيشتهم كثيرا.وكذا لغياب معرفة المواطن ووعيه الكافى بدور البلدية. وواقع الحال أن قانون المحليات الجديد المنسجم مع دستور يمنحها سلطة أكبر فى إدارة شئون القرب أصدره البرلمان فى وقت لاحق.. الناس والفوسفات والشركة منحت «قفصة» بمدنها «الرديف» و«المظيلة» و«المتلوي» و«أم العرائس» والتى يجمعها تسمية «الحوض المنجمي» الدولة الفوسفات.يمول خزينتها بالعملة الصعبة،وعلى نحو يضاهى دخل السياحة. هذه الثروةالمعدنية الأهم فى البلاد تحتكر استخراجه من « المقاطع»شركة وحيدة منذ مطلع القرن العشرين. وكان الفوسفات إلى ما قبل سنوات معدودة يمنح تونس المرتبة الرابعة بين منتجيه على مستوى العالم. لكن لاتوجد إجابات عن ترتيب تونس الآن بين منتجى الفوسفات عالميا. وبالمقابل فإن المزاج السائد بين أهل قفصة هو خليط من التعلق بأمل العمل فى الشركة ومرافقها وبين النقمة عليها. ولسان حال أغلب من التقيناهم بعاصمة الولاية وثلاث مدن بالحوض المنجمى بها تلخصه العبارة: «الشركة والفوسفات نعمة ونقمة هذه البلاد». ويقول لنا «نوفل معلوفة» الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل بقفصة إن دولة مابعد الاستقلال أممت الشركة،لكنها تخلت عن الجانب الأكبر من دورها الاجتماعى والخدمى هنا وتركته للدولة. كما يتهم سلطة الدولة على مدى عقود بالتعامل مع منطقة الحوض المنجمى كمصدر للدخل وتمويل الخزينة العامة دون أن تهتم بدفع الاستثمارات العامة أو الخاصة للولاية أو بالمساعدة على تنويع مصادر الثروة والتشغيل بها. ويضيف أيضا أنه مع آمال الناس فى التغيير ومع فيض وعود الساسة بالالتفات الى المناطق المحرومة بعد الثورة فإن مدن الفوسفات لم تعرف مشروعا تنمويا واحدا يعالج البطالة. ويوضح ملخصا وبالمعلومات وعى أهل المنطقة بمعاناتهم هنا قائلا: »بحلول الثمانينيات وإدخال تكنولوجيا أكثر تطورا على صناعة الفوسفات انخفض عدد عمال الشركة من 20 ألفا إلى 14 ألفا..ولكن ظلت عوائدها غير معلومة حتى بالنسبة لنا فى اتحاد الشغل..وارتفعت المطالبات من الناس بحصة منها لتنمية المنطقة». حدثان وانتخابات البلديات أهمية استكشاف سباق الانتخابات البلدية من ولاية «قفصة» ومدن الفوسفات بالحوض المنجمى يعززها حدثان اثنان فرضا نفسيهما على وسائل اعلام العاصمة قبل أسابيع معدودة: الأول هو تجدد الاحتجاجات الاجتماعية للشباب المطالب بالعمل فى شركة الفوسفات والذى يطعن فى سلامة نتائج مسابقات التعيين بها. والحدث الثانى هو تسرب سحابة غاز ودخان من المجمع الكيماوى التابع للشركة والواقع على مقربة من هذه المدينة مما تسبب فى حالات تسمم بلغت نحو 120 بين سكانها وكذلك أهالى مدينة القطار. ولقد أصبح هذا التسرب عنوانا على مخاطر التلوث الناجمة من الشركة والصناعة، ودون مراعاة لحقوق الناس البيئية. ويلخص هذان الحدثان شواغل أهل ولاية قفصة وناخبيها: تشغيل الشباب وتلوث البيئة. معظم من تحدثوا معنا من أهل الأحزاب والسياسة أو غير المكترثين بها من عاصمة الولاية الى مدن الفوسفات توقعوا انخفاضا عن نسبة المشاركة فى الانتخابات التشريعية السابقة.من بين المتنبئين بانخفاض نسبة المقترعين هذه المرة «منصف الذويبي» رئيس الحملة الانتخابية لحزب «النهضة» بالولاية.ويتوقع مشاركة بين 40 و50 فى المائة. لكن هذا لا يمنعه من تفاؤل أن يحافظ حزبه على المرتبة الأولى بين القوائم. فى مقر «نداء تونس» بمدينة الرديف كان « الفاضل العبيدي» منسق الحملة الانتخابية للحزب هنا من بين الأقلية المتفائلة بتجاوز المشاركة نسبة الانتخابات البلدية.استقبلنا بمزحة ضاحكة عندما استفهمنا عن غياب أى مظاهر لحملة انتخابية بالمدينة قائلا «هى انتخابات سرية». وقال انه يتوقع مشاركة بنسبة 75 فى المائة مراهنا على أن يزيد مفعول روابط «العروشية» عن الانتخابات التشريعية. كما توقع أن تتفوق قائمة حزبه هذه المرة على النهضة وتحل أولا هنا. فى مقر المنتدى الاجتماعى الاقتصادى بالرديف والشهير هنا بعنوان «منتدى الحوض المنجمي» يمكن ان تعاين من النافذة مدى قرب صناعة الفوسفات من قلب المدينة.وأيضا تكدس أطنان من المادة الخام والمعالجة جراء تعطل النقل مع احتجاجات للمعطلين تمتد لأشهر. تتوقف وتعود مع اعلان نتائج كل مسابقة للتعيين بالشركة تحيط بها اتهامات السكان بالمحاباة والفساد. طارق حلمى رئيس المنتدى هنا يبلغنا بما وصفه ب «حالة اليأس» من الطبقة السياسية ومن الأحزاب لأن «انتظارات» الشباب المعطل بخاصة وعموم السكان المطالبين بتحسين شروط المعيشة والتخلص من التلوث طالت ولم تتحقق. وهو بدوره يتوقع اقبالا من الناخبين أقل من التشريعية. ويلفت النظر إلى مأزق ناجم عن زيادة اعداد السكان وتضاعفهم ربما أربع مرات كما قال مقابل انخفاض عمالة الشركة الى الثلثين وغياب أى مشروعات تنموية للتشغيل خارجها. موظفون وعروش فى حى «البرج» بالمظيلة يلخص «بوبكر العكرمي» من سجناء انتفاضة الحوض المنجمى عام 2008 وحاليا وبعد الثورة يعمل سائق شاحنة نقل عملاقة بشركة الفوسفات وعضو التنسيقية الوطنية للحركات الاحتجاجية , حيرة الناخب إزاء البلديات. قال: »الاهتمام محدود فعلا بالانتخابات بسبب انعدام الثقة فى وعود لم تتحقق..لكن العروشية ستدفع الناس هنا يوم الاقتراع للذهاب إلى الصندوق». ويبدى «العكرمي» على نحو خاص حيرة إزاء نسب المشاركة المتوقعة فى البلديات هنا بين أن تقل عن التشريعية أو تحدث مفاجأة وتزيد عنها بقليل. قليل لا يدفع النسبة لأعلى من 55 فى المائة كما قال.وهذا فى تفسيره جراء العروشية وطبيعة الانتخابات هذه المرة التى تعتمد على العلاقة المباشرة بين المرشح على القوائم و بين الناخب أقوى من التشريعية. عبد الجواد الثليجانى (57 سنة) الموظف بالمجمع الكيماوى للشركة يرأس قائمة مستقلة بالمظيلة. وهو بدوره نموذج لمن جاءوا الى السياسة هذه المرة من زخم جمعيات المجتمع المدنى بتونس بعد الثورة. قال إنها المرة الأولى التى يخوض فيها أى انتخابات وإنه لم يتول من قبل أى مسئوليات بلدية.وهو من جانبه يتوقع أن تسهم العروش فى رفع نسبة المشاركة يوم 6 مايو. كما توقع نصيبا فى المجلس البلدى المقبل للقوائم المستقلة،مع أنه أقر بانعدام أى تنسيق بينها وبأن القوائم الحزبية وبخاصة للنهضة والنداء مرشحة أكثر لاستثمار الولاءات العروشية. والثليجانى ينبه إلى أن استمرار ضعف الميزانية المخصصة للبلديات الواردة من العاصمة سيعرقل تجربة سلطة محلية أكبر من ذى قبل كما سيسهم فى تفاقم عدم ثقة الناخبين والناس فى وعود المرشحين. فى الرديف وعلى مقربة من منزل «مجدى شيبو» واحد من أشهر مغنى «الراب» الشبابى الاحتجاجى بالحوض المنجمى خط أحدهم شعارا فوق جدار: »هاجر أنت ليس بشجرة« مع علامة تعجب فى نهاية الجملة. وعلى جدار آخر بالقرب من مقر هيئة الانتخابات بعاصمة الولاية وخلف كراسى متناثرة لمقهى عامر برواده الشباب شعار لافت بدوره: «أين حقنا فى الفوسفاط»، والى جواره رسم كيفما اتفق لنظارة بصر.. لا علامة استفهام. وغالبية من تحاورنا معهم من شباب مدن الفوسفات العاطل الغاضب قالوا انهم وبنسبة كبيرة لن يذهبوا الى صندوق البلديات أو إنهم مترددون حائرون.. أو سيظلون هكذا إلى يوم 6 مايو.