حضرت مؤخرا، مناقشة رسالة دكتوراه «المنظومة السياسية والاجتماعية فى السير الشعبية – الزير سالم وعلى الزيبق نموذجًا»، فى آداب عين شمس، للباحث الدؤوب دكتور «هشام عبد العزيز محمود» والتى حاز عنها «درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى»، مع توصية بطبعها وتداولها بين الجامعات، وترأس لجنة المناقشة أ.د. أحمد شمس الدين الحجاجى بآداب القاهرة، وأشرف عليها أ.د. محمد يونس عبد العال بآداب عين شمس، وعضوية أ.د. مصطفى جاد شعبان بالمعهد العالى للفنون الشعبية، وإشراف أ.د. خالد عبد الحليم أبو الليل بآداب القاهرة. والموضوع ضمن ما يمكن تسميته «علم الفولكلور السياسى». كون الفلكلور أحد الأوعية غير التقليدية للوعى السياسى العربى. ويمكن دراسته طبقا لأدوات وإجراءات منهجية مناسبة الوصول إلى نتائج معرفية مهمة وناجعة على المستوى السياسى والاجتماعى والاقتصادى والمعرفى، منها السير والحكايات الشعبية والشعر والأغانى والأمثال والألغاز والفكاهة والتعابير والأقوال السائرة ونداءات الباعة والأدعية والرقى والتعاويذ. ................................... وكل من هذه المصادر يحتاج لأدوات منهجية خاصة قد لا تصلح مع غيره، رغم المشتركات بينها. والنظر من خلال هذه الأوعية الشعبية، غير التقليدية يتيح زاوية جديدة لرؤية المنظومتين السياسية والاجتماعية، والدراسة بمثابة محاولة لإعادة الاعتبار لهذه المصادر المعرفية الدالة على طبيعة الوعى العربى فى البعدين السياسى والاجتماعى. ومع تقدم الدراسة لم يجد الباحث فوارق جوهرية من حيث البنية السياسية والاجتماعية بين السيرتين، بالرغم من أن كلتيهما تنطلق من شروط سياسية واجتماعية مختلفة تمامًا عن الثانية، فالزير سالم تعبر عن مجتمع قبلى تماما، وهى صراع بين عرب الشمال والجنوب فى جزئها الأول، وصراع بين عرب الشمال بعضهم البعض فى جزئها الثانى، أى أنها صراع قبلى بكافة شروطه. أما سيرة على الزيبق فتعبير كامل فى الجزء الأول منها عن صراع سياسى وأمنى فى مجتمع حضرى بين مؤسسات الدولة الواحدة سواء بين على الزيبق وصلاح الكلبى فى مصر، أو بين على الزيبق ودليلة المحتالة فى مصر وبغداد. وفى الجزء الثانى تعبير عن صراع حضرى بدوى فى ظل دولة حضرية مركزية، وكان هذا الاختلاف هو الدافع وراء اختيار الباحث السيرتين لدراسة البنية السياسية والاجتماعية فيهما، آملاً العثور على تطور ما يمكن أن تفصح عنه هذه الموازنة. ولم يستطع الباحث فك شفرة التشابه بين السيرتين إلا بدراسة الأبعاد التاريخية والجغرافية الخاصة بالسيرتين، حيث توصل إلى أن كلتيهما تنطلقان من حدث تاريخى غير متفق عليه، سواء فيما يتصل بحرب البسوس فى الزير سالم، أو على الزيبق فى سيرة على الزيبق، لا من حيث الأحداث ولا تواريخها، ولا حتى طبيعة وانتماء الأشخاص الفاعلة فيها على المستوى التاريخى. وربما يعد الارتباك التاريخى فى السيرتين حالة نموذجية لتعاطى المبدع الشعبى معها وبناء سيرة، هذا أولاً، وثانيًا: لو اعتمدت آخر التواريخ المتاحة فى السيرتين، سنجد أنفسنا أمام روايات تاريخية تتحرك فى المجتمع العربى وتتجادل منذ القرن التاسع الهجرى، وأمام نصوص وروايات أدبية شعبية منذ هذا التاريخ تقريبًا. أى أن هاتين الروايتين استمرتا فى تفاعل مع الوجدان العربى كلما مرّ بأزمات منذ نحو سبعة قرون، والمعروف أن قصص البطولات الكبيرة التى سجلتها السير الشعبية العربية بصفة عامة، تتكون أصلاً من روايات متعددة تظل تُروَى حول بطل بعينه أو مجموعة من الأبطال الذين يستدعيهم الوعى الشعبى فى الأزمات السياسية التى تمارس فيها السلطة عملية القهر الجماعى ضد الشعب. فالأزمات السياسية التى كانت تمر بها الشعوب العربية، كانت تقدم الزاد الخصب لنمو هذه الروايات، وتلاحمها فيما بعد لتكون عملاً قصصيًّا كبيرًا، واكتملت مثل هذه الروايات أدبيًّا أو كادت منذ نحو مائتى سنة، وطبعت طبعتها «المميتة» أو المجمِّدة حسب تعبير الدكتور «أحمد شمس الدين الحجاجى»، غير أن الملاحظة الأكثر أهمية، أن هاتين السيرتين طبعتا معا منذ قرن تقريبًا، فيما يبدو من روايات شفاهية هى بنت الفترة نفسها، ما يجعل الشروط الموضوعية، سياسيًّا واجتماعيًّا، لرواية وتدوين وطباعة السيرتين واحدة، رغم اختلاف المنطلق التاريخى الأول للحدث (المضطرب) نفسه. وهذهالتشاكل يثبت مدى تأثير تاريخ الرواية/ التدوين/ الطبع على الرواية، أكثر بكثير من تأثير الحدث الفعلى الذى تحكيه الرواية. وهو ما تؤكده الرواية الميدانية التى جمعها الباحث من محافظة الفيوم عام 2005، لسيرة الزير سالم، حيث يغلب تاريخ التدوين، ليس فقط فى التعبير عن البنيات الناظمة للمجتمع كما فى حال النصين المطبوعين اللذين اعتمدت عليهما الدراسة، بل فى كل التفاصيل كما فى رواية الفيوم المشار إليها، فالزير سالم فى هذه الرواية صاحب خمّارة فى الفيوم (مركز المحافظة)، كما أن عالم السيرة فيه حرفة النجار، وفيه ساقية (معروف مدى الترابط بين الفيوم والسواقي). ورغم وجود قليل من الاختلاف بين السيرتين، فهناك ثبات فى كثير من القيم والمعتقدات والعادات الاجتماعية، من أبرزها عادة الثأر، تلك العادة العربية المتجذرة فى المجتمعات الريفية التى تنتشر كذلك فى محافظات الصعيد. فقد ورد ذكر الثأر فى سيرة الزير باعتباره المحرك الأساسى للأحداث. وكذلك فى سيرة على الزيبق. بل إن سيرة الزير سالم تستعرض ما سمته «ثأر الحمار» الذى ورد ذكره على لسان الزير سالم نفسه عندما قتل الأسد الذى افترس حماره، وهو ما يشير إلى مدى تجذر عادة الثأر فى المجتمعات العربية. وتوصل الدكتور هشام عبد العزيز إلى عدة نتائج منها أن السيرة – بوصفها فنًّا سرديًّا – تحولت إلى نوع أدبى خاص بمؤلف معلوم وجمهور محدد، أى أنه تحول شيئًا فشيئًا من خطاب إلى نص، غير أنه لم يتخلص من كثير من سماته الشعبية، ليتحول فى القرن الأخير إلى خطاب شعبى مرة أخرى، أى أنه استعاد طبيعته الشعبية بالكامل مرة أخرى. كما خلصت الدراسة إلى أن هذه النوعية من الكتابة هى بنت زمن روايتها، ولذا فليس من السهل أن ننسبها لزمن محدد أو مكان محدد طبقًا لموضوعها، لذلك فإن البحث عن نسب لهذه النصوص يقتضى درسا للحفريات المعرفية فى كل نص كى يمكن أن نطمئن بنسبة معقولة لهذا النسب، كذلك لا يجب أن يطمئن الباحث تمامًا لنقطة البداية فى بعض السير، كأن يفترض مثلاً أن «سيرة الظاهر بيبرس» لم تكن موجودة تمامًا قبل عصر بيبرس، ففى عنوان السيرة تكمن خدعة كبرى، حيث إن العنوان جزء من اللعبة، فالسير ليست موضوعًا واحدًا محددًا من بدايتها لنهايتها، بل إن الإطار العام للسيرة هو إطار مرن يسمح، مثل كل النصوص الكبيرة، بدخول وخروج الكثير من الوحدات النوعية الصغيرة، التى ربما، كانت ضمن أطر نوعية أخرى وخرجت منها. أى يفاجأ الباحث بوحدة سردية زمانية أو مكانية أو لغوية تنتمى لعصر أسبق على موضوع السيرة أو شخصيتها الرئيسية. لذلك رأى التنبيه إلى أن الدرس الأدبي/ النقدى العربى يحتاج بشكل ملح لدراسات معجمية تنتمى لعلم اللغة التاريخى على الأقل فيما يتصل بألفاظ الحضارة، حيث يمكنه أن يكشف متى استوت لفظة من المعجم العربى بمعنى محدد. وتوصلت الدراسة إلى أن الاطمئنان إلى النصوص التى يتم الرجوع إليها عند قراءة ودراسة السير الشعبية التى بين أيدينا، هو اطمئنان مبالغ فيه، فإنما هى طبعات قديمة فى مجملها تحتاج كلها إلى التحقيق العلمى المنضبط الذى يُخضعها لأدوات علم التحقيق مع عدم إغفال طبيعتها النوعية الخاصة؛ أى لا يخضعها بصرامة لبعض الإجراءات المنهجية لعلم التحقيق، مثل المقابلة بين النسخ، فلكل رواية من روايات أى سيرة احترامها واعتبارها الخاص. لكن لا يجب أن يجرى الاطمئنان لهذا الكلام وأعماله بشكل أعمى أيضًا، فقد تقتضى الضرورة الاستعانة برواية من الروايات عند الاعتماد على أخرى. وهو ما وجده الباحث عند تحقيق لسيرة الزير سالم وكان قد قارب على الانتهاء منها تمامًا، فرأى أن تحقيقها لن يخرج آمنا إلا بالاعتماد على نسختين على الأقل، وإن رأى ألا يرى التحقيق النور إلا بخمس نسخ مختلفة (مخطوطة ومطبوعة – نثرية وشعرية) فى نص يرجو أن يضيف لعلم تحقيق التراث بقدر ما يضيف للأدب الشعبى. لأن الثقافة العربية تحتاج لجهود بحثية أكثر عمقًا ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، والمقارنة الدقيقة بين ما قبل وما بعد دخول المطبعة سواء فى العالم الإسلامى أو العالم العربى، وخصوصا فى مصر والشام، وهو ما رأى الباحث صداه فى هذه الدراسة فيما سماه «عصر التدوين المميت» الذى لم تكد تراوغه وتفلت منه سوى «السيرة الهلالية». كذلك رأيت أنه ينبغى على الدارسين للسير الشعبية – خاصة فى طبعاتها القديمة المنتشرة الآن – أن ينتبهوا إلى البعدين التجارى والتقنى عند مطالعة هذه الطبعات. مثل إشارة سيرة الزير فى نهايتها إلى بنى هلال بمدح يتجاوز الأبعاد القبلية والمذهبية بإبراز بطولتهم فى مناصرة النبى فى حروبه. ولهذه الإشارات أبعادًا تجارية دعائية، أما البعد التقنى فالمقصود به عملية تركيب الحروف فى الطباعة القديمة، وتمنى الباحث على الباحثين الاهتمام بتحقيق السير الشعبية بمنهج علمى ولا يُكتفى بمجرد النشر الحديث لطبعات قديمة دون تحقيقها بما يشى بأن الطبعة الحديثة هى عينة آمنة للدراسة وهى فى الحقيقة تكون أبعد ما يكون عن الأمان العلمى.