انطلقت في تونس أخيرا حملات الدعاية ل 2073 قائمة تتنافس لشغل 7177 مقعدا لثلاثمائة وخمسين مجلسا بلديا. وهذه هي أول انتخابات للمحليات بعد ثورة تونس. وهي أيضا بالقطع الأكبر في تاريخ البلاد .لا من حيث عدد المرشحين (نحو 54 ألفا) وكذا القوائم. بل أيضا بالنظر إلي عدد الناخبين المسجلين (نحو 5,4 مليون) وحجم الجهاز المشرف علي اجراء الانتخابات (نحو 60 ألفا ) . حقا هي الانتخابات الأضخم التي تعرفها تونس خصوصا بعدما زيد عدد البلديات 86 جديدة وأعيد ترسيم دوائر بلدية قائمة بهدف شمول جميع أراضي الدولة وتفعيل مبدأ التمييز الإيجابي للجهات المحرومة الأقل حظا في التنمية . ناهيك عن إرضاء نزعات جهوية أخذت في السنوات الأخيرة تلح بأساليب احتجاج عدة علي إطفاء ظمأ سكانها الي اهتمام الدولة والاعتراف بأهليتها للتفرد بكينونة وشخصية محلية. وإذا أخذنا نموذجا «القصرين» بالوسط الغربي والتي تعد من بين الولايات المحرومة تاريخيا والي الآن وحيث تتدني نسبيا مؤشرات التنمية البشرية، فقد أضيف الي بلدياتها العشر 9 بلديات جديدة .علما بأن القصرين قدمت أكبر عدد من شهداء الثورة بين مجموع 24 ولاية بالبلاد. الحملة الانتخابية انطلقت صاخبة كاسحة في وسائل الإعلام مع أساليب وبرامج مبتكرة تعتمد تقديم المعلومة عن الواقع المحلي في كل مكان و محاولة التفاعل مع المواطن بشأن مشاكل القرب ومنحه مساحات رأي وانتقاد وجرأة لافتة بحق .وكأن تونس تعيد اكتشاف الذات والتعرف علي حقائقها المنسية لعقود تقدمتها دولة الاستقلال الوطنية المركزية . إلا أن كل هذا الصخب الإعلامي والدعائي مازال وحتي اليوم الثالث من انطلاق الحملة ونحن علي مسافة زمنية محدودة من يوم الاقتراع الكبير المقرر في 6 مايو المقبل غير ملموس بالقدر ذاته في اهتمامات الشارع وشواغله. وقد تيقنت من هذا بسؤال العديد من المصادر خارج العاصمة علاوة علي ما لاحظته بها . صحيح أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تدخل الي اختبار «البلديات» الأكبر والأصعب برهان مشوب بمخاوف عزوف حين افصح رئيسها واعضاؤها عن الأمل في ألا تقل المشاركة عن المتوسط الذي سجلته آخر انتخابات برلمانية ورئاسية خريف 2014،وهو 65 % من المسجلين . ويستند هذا الرهان علي ارتفاع نسبة الشباب تحت 35 سنة الي ما يزيد علي 52 % من اجمالي المرشحين، واقتراب النساء من نصف المتقدمين لشغل إجمالي المقاعد (49 %) و شغلهن 30 % من رءوس القوائم (بمقتضي قانون يميز إيجابيا الشباب والمعاقين ويضمن للمرأة تناصفا رأسيا وأفقيا بخاصة علي قوائم الأحزاب). إلا أن مايجعل هذا الرهان بحق مشوبا بمخاوف هو أن آخر استطلاعات الرأي الأعلي مصداقية نسبيا ( لمؤسسة سيجما كونساي في 13 فبراير الماضي وقبل يومين من وقف نشر هكذا استطلاعات قبل الانتخابات بمقتضي القانون ) أفادت بأن أقل من 20 % من المستجوبين فقط أكدوا المشاركة فيما قال نحو 33 % انهم لن يصوتوا،وأبقت النسبة الأكبر وبنحو 37 % ( لا تعرف ) مع 10 % رفضوا الإجابة. وهكذا يمكن فهم وتقدير كيف أن الرهان مهم وكبير علي نتائج هذه الحملة الانتخابية لدفع الناخبين للذهاب الي الصناديق . وسواء أكان هذا الرهان من 22 فقط من بين اجمالي نحو 210 أحزاب بتونس تقدمت ب ( 1055 قائمة ) وكذا من 860 قائمة مستقلة و 159 قائمة ائتلافية، أو من هيئة الانتخابات، وكذا من مجمل الطبقة السياسية في مؤسسات الحكم، وعديد جمعيات ومنظمات المجتمع المدني التي تأمل في نقلة نوعية في علاقة السلطة بالمواطن مع تجربة حكم محلي غير مسبوق بتاريخ تونس. مايستحق التوقف أيضا مع أهمية بناء أول سلطة حكم محلي بعد الثورة في تونس بمقتضي الصلاحيات غير المسبوقة في الدستور الجديد وباستقراء خطاب واعد مسموع من قطاع كبير مؤثر بين النخبة السياسية والمجتمع المدني جاء الي قاموس السياسة هنا بمصطلحات ك «الديمقراطية التشاركية « و»التدبير الحر للبلديات « و» توسيع وتوزيع السلطة في الدولة إلي ماهو أبعد من البرلمان والحكومة ومؤسسة رئاسة الجمهورية» هو أن مايبدو من «برود نسبي» في الشارع وعلي الأرض تجاه حملة بلديات صاخبة، يقترن بنوع من «اللامبالاة» تجاه نقاشات البرلمان الجارية حاليا لسن قانون الجماعات المحلية الجديد (السلطة المحلية) ليحل محل قانون عام 1975 الذي يتعارض يقينا مع الدستور الجديد روحا ونصا. ولاشك أن تأخر البرلمان في سن هذا القانون يزيد من ضبابية البيئة التي تحيط بإجراء الانتخابات البلدية . وهي ضبابية يسهم فيها تصدر أزمات تثير الصخب وتشتت الانتباه وتخلط الأولويات بدورها كمستقبل حكومة يوسف الشاهد وخلافاتها مع اتحاد الشغل وطرح مبادرات مربكة في هذا التوقيت كتعديل النظام الانتخابي ووثيقة قرطاج المؤسسة للحكومة الحالية. واللافت أن أسئلة مهمة يبدو وكأنها سقطت في الظل وسط صخب وتجاذبات سبقت حتي بدء الحملة الانتخابية. أسئلة من قبيل: ماهي طبيعة وحدود صلاحيات وسلطات المجالس البلدية الجديدة؟ وكيف يتوازن نظام حكم محلي قوي وفعال مع تهدئة المخاوف بشأن وحدة الدولة ؟ وإن كان جانب منها مبالغا فيه ومشدودا الي الماضي ومصالح جماعاته ورجاله. وكيف سيكون بإمكان المجالس هذه العمل بأعضاء من أحزاب وقوي سياسية متنافرة بل متصادمة جراء نظام انتخابي يضمن تمثيلا تعدديا واسعا ولا يؤمن اغلبية مطلقة؟.. أم أن مواجهة مشكلات محلية حياتية محددة وبعلاقات مباشرة وعن قرب مع المواطنين الناخبين من شأنه ان يخلق وينمي ثقافة تعايش وتعاون وعمل مشترك بينها؟ هذه أسئلة تاهت في أجندة سياسية بالأصل حافلة مرتبكة، ولم تلق الاهتمام اللائق في الإعلام و أنشطة الأحزاب والمجتمع المدني . وهذا مع انها قضايا بالغة الأهمية لتطور تجربة تونس في الانتقال الي الديمقراطية عموما و لإنجاح مسار الانتخابات المحلية ذاتها. والأرجح مع حملات انتخابية صاخبة، فإن هذا النوع من الأسئلة لن يجد أيضا الفرصة لنقاش حول اجتهادات مطلوبة وضرورية في الإجابة عليها.