فى 28 / أغسطس / 1968 فى مدينة بوسطن أطلق العالم الاجتماعى الأمريكى فيليب هاوزر فى مؤتمر حول السكان صرخة تردد صداها على مدى سنوات وحتى اليوم وهى عبارة عن دعوة للحذر من انقلاب سكانى أو ديموغرافى يلف العالم كله، وقد شهد العالم تهجيراً قسرياً لفئات من شعوب إفريقيا وآسيا وزحفهم إلى أوروبا وأمريكا وبعده كتب المفكر ريمون آرون سنة 1983 فى مذكراته: أن الأوروبيين فى طريقهم للانتحار والاندثار لأنهم توقفوا عن الإنجاب بصورة مرعبة، وفى محاضرة ألقاها رئيس وزراء فرنسا آنذاك ميشيل روكا فى مؤتمر حول العائلة يوم 19 / يناير / 1989, قال: إن غالبية بلدان الغرب فى طريق الانتحار دون وعى أو إدراك بسبب إحجامها عن الإنجاب إن تناقص سكان هذه البلدان فى اطراد بل إن أوروبا ستفقد شعوبها حوالى سنة 2250 على رأى المفكر جان بوب بورجوار بيشار، إن الحضارة تمتد وتتواصل بوجود الإنسان أما إذا حدث فراغ «بشرى» فستسقط حتماً هذه الحضارة، وليس أمراً غريباً فى مسيرة التاريخ الإنسانى سقوط حضارة وقيام حضارة جديدة، وهجرة شعوب إلى مناطق جديدة بل لعل ذلك من قوانين التاريخ والإنسان، ومنذ صرخة العالم الأمريكى وحتى اليوم يؤرق شمال الكرة الأرضية هاجس تناقص عدد سكانها مما دفع علماءهم إلى البحث عن وسائل تساعد الشباب على حب الإنجاب واستخدام طرق متنوعة لتشجيع زيادة النسل، ومازال هاجس فقدان الهوية أزمة البلدان المترفة، والتى تخشى أن يملأ فراغها البشرى أجناس مختلفة وثقافات متعددة, هذه أزمة شمال الكرة الأرضية بل وأحد أسباب «طمع» باقى الشعوب الفقيرة فى خيراتها مما أفرز فى العالم جماعات إرهابية لا يعرف العالم كيف يسيطر عليها، وخطرها دائم متصل رغم احتمال الغرق فى عبور المتوسط فإن أعداد الغرقى فى ازدياد فأين المفر لفقير معدم جائع؟. وإذا تأملنا مشهد النصف الجنوبى للكرة الأرضية وهو انتحار من نوع آخر مع الحرص بعدم تعميم الأحكام نجد الأزمة فى وجهها الثاني، هناك فى الشمال فراغ بشري، وهنا فى الجنوب تفجر فى السكان وزيادة رهيبة مخيفة، وأكتفى بمثلين فقط من إفريقيا الأول من مصر، فقد قامت ثورة سنة 1952 وتعداد مصر لا يتخطى ثمانية عشر مليوناً من السكان، واليوم ونحن فى سنة 2018 قد تخطى عدد السكان الخمسة والتسعين مليوناً وينتظر أن يرتفع عدد السكان سنة 2030 إلى مائة وخمسين مليوناً إذا استمرت المواليد على ما هى عليه لا تتناقص إلا قليلاً، والمثل الثانى من نيجيريا كان عدد سكانها سنة 1991 ثمانية وثمانين مليوناً قفز سنة 2000 إلى مائة واثنين وعشرين مليوناً (122 ) مليوناً من البشر، ونستطيع القول ذاته عن كثير من دول إفريقيا وآسيا، وأزمة العالم فى جوهرها هى أزمة فراغ بشرى من جهة، وانفجار سكانى فى جهة أخرى، ونحن نعلم أن البحر أو النهر إذا فاض بالماء فإن المياه تغمر ما حولها فهل يحدث ذلك بين شمال الكرة الأرضية وبين جنوبها؟ أم ستظل مأساة الغرقى فى المتوسط متصلة، والخوف يهيمن على العالم، وليس هناك رؤية إنسانية يتفق حولها البشر، لتحويل هذه الأزمة إلى نوع من تكافل الشعوب وتضامنها درءا للكوارث والمجاعات والإرهاب والعنف، هل يعجز العقل البشرى عن إبداع لحل الأزمة، أم كتب على الإنسانية أن تعيش مأساة الإنسان، هل يعجز رجال السياسة، ورجال الدين ، والفلاسفة وأهل الحكم عن إيجاد سبيل لإزاحة هذا الكابوس؟ لا نريد أن ننبش جراح التاريخ ونبحث عن أسباب ذلك فى إلصاق تهمة الأنانية والكبرياء للشمال الذى يمتلك العلوم والثروة والسلاح ولا تهمه الكسل للجنوب الذى يريد أن يطور بلاده وأن يقلل من نهب ثروات الشعوب، والإحصاء يقول إن أربعين مليوناً من البشر يموتون كل سنة جوعاً وفقراً ومرضاً، إن الإنسانية أسرة واحدة، ولن ينجو بلد على سطح الكرة الأرضية من الفيضانات البشرية الجائعة الباحثة عن نصيبها من خيرات الأرض، ولا يظن أحد أنه بعيد كل البعد عن هذه التوابع إنها مسئولية البشر جميعاً، ومنذ زمن قليل قدم أحد العلماء اقتراحاً للأمم المتحدة بأن تكرس الدول الغنية والقادرة نسبة 1% من ثمن الأسلحة لتقام المشروعات التنموية التى تجذب الشباب الهارب من بلاده تاركاً أيها فى الجوع والفقر دون أن يعمل شيئاً، لو تبرع كل طفل فى عالم الرفاهية والثراء بثمن قطعة شيكولاتة لصندوق تنمية الألم لأسهم ذلك العمل البسيط فى التخفيف من الكارثة، إن إفريقيا قارة بكر وآسيا فيها المجال لإقامة المصانع والأيدى العاملة، واستراليا قارة بكر وأمريكا الجنوبية تمتلك الخبرة فى مجال التنمية، والبلاد العربية لا ينقصها المال، فهل من معجزة تزرع فى قلوب البشر بذور المحبة والتعاون أم نستسلم أمام توحش الذى يملك وأنين الذى لا يملك . إن العلم يؤكد لنا أن الأرض كما خلقها الله تسع ثلاثة عشر ملياراً من البشر وتكفى حاجاتهم وأكثر لأن الأرض لا تعقم ولا تبخل والبشرية لم تتخط ثمانية مليارات حتى اليوم كما أن مجال الفضاء يمدنا بالأمل فى خيرات لم تكتشف بعد، والمحيطات والبحار غنية بثرواتها، وفوق ذلك كله المسئول الأعظم عن البشر هو خالقهم على أن يكون كل إنسان مسئولاً عن أخيه الإنسان. لمزيد من مقالات ◀ د.الأنبا يوحنا قلته