لو كنت عربياً فى لندن يوم السبت الماضى، 31 مارس، صبيحة قتل إسرائيل 16 فلسطينياً خلال اليوم الأول من مظاهرات سلمية مقرر أن تستمر حتى مايو المقبل لتأكيد حق العودة، وتصفحت الصحف اليومية كلها بحثاً عن خبر المظاهرات الفلسطينية فى غزة والضفة وقتل إسرائيل 16 فلسطينياً بإطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين العزل، فلن تجد الخبر منشوراً سوى فى صحيفتين فقط، الأولى «الصنداى تايمز» الذى نشرته فى الصفحة 43 على عمود، والثانية «الأكسبرس» الذى نشرته باقتضاب بالغ. مقابل ذلك، كانت أخبار وتقارير معاداة السامية داخل حزب العمال وتباطؤ زعيم الحزب، جيرمى كوربن، فى التصدى لها، تحتل الصفحات الأولى والتغطيات الداخلية الموسعة لكل الصحف البريطانية بلا استثناء. البعض لم يجد الغياب شبه الكامل للقضية الفلسطينية فى الجدال الثقافى والإعلامى البريطانى، مقابل الحضور الطاغى لقضية معاداة السامية، مدعاة للتأمل أو للتفكير. فهذه قضية وتلك قضية كما يرون. لكن البعض الآخر، لم يجد مناصاً من ملاحظة أن التعتيم على القضية الفلسطينية وعدم معالجة عنف إسرائيل المفرط إزاء المظاهرات السلمية، مقابل التغطية الواسعة لاتهامات حزب العمال بالتساهل فى التصدى لمعاداة السامية، أمر كاشف جداً. ففى رأى هؤلاء، وهم أصوات خافتة فى المشهد الثقافى والإعلامى البريطانى، لا يمكن فى وقتنا الراهن مناقشة أى شكل من أشكال كراهية إسرائيل ومعاداة السامية دون ربطها بالقضية الفلسطينية. وبالتالى علاج الموضوعين كقضيتين منفصلتين عديم الجدوى. فمن المستحيل فهم مشاعر العداء لإسرائيل فى بعض أوساط اليسار الأوروبى دون العودة للموضوع الفلسطينى، ودولة الفصل العنصرى التى أقامتها إسرائيل وتعامل بمقتضاها فلسطينيى 1948، واستمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية وقضم القدس والاستخدام المفرط للعنف ضد الفلسطينيين عندما يحاولون المقاومة. وتحت عنوان مثير هو «مصنع جيرمى كوربن للكراهية»ولإلقاء الضوء على ما هو مفترض من «توغل» معاداة السامية فى حزب العمال، نشرت صحيفة «ذى تايمز» البريطانية تقريراً بعد جرد وتمحيص حسابات 20 مجموعة من مؤيدى كوربن على فيسبوك (بإجمالى عدد أعضاء 400 ألف شخص)، كدليل على نوع التعليقات المعادية للسامية وسط أنصار زعيم حزب العمال. لكن حقيقة الأمر أن التعليقات كانت مرتبطة باستجواب الصحة التاريخية للهولوكوست والنفوذ المالى الكبير لليهود فى العالم وسياسات إسرائيل التوسعية. فأحدهم قال إن طرح التساؤلات حول حجم الهولوكوست لا يعنى التشكيك فيه. أما إيان لوف، أحد أعضاء حركة «مومنتوم» (العمود الفقرى لداعمى كوربن) فقال إن رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير «يهودى حتى النخاع». كما قال إنه يعتقد أن أسرة روتشيلد اليهودية تسيطر على معظم موارد العالم المالية. إضافة إلى ذلك،كانت هناك تعليقات سلبية ضد شخصيات عامة يهودية، من بينها عضو حزب العمال لوسيانا بيرغر، ورئيس مجلس ممثلى اليهود البريطانيين جوناثان أركوش. لكن غالبية التعليقات التى جمعتها «ذى تايمز» من حسابات المجموعات الداعمة لزعيم حزب العمال مثل حركتى «مومنتوم» و«مؤيدو جيرمى كوربن» لا تتعلق بتطور حديث أو موقف جديد لافت، بل تعليقات ترجع لسنوات لأفراد فى مجموعات على فيسبوك تدعم كوربن، دون أن يكونوا أعضاء أو ناشطين فى حزب العمال. وعلى هذه الخلفية أيضاً، تم خلال الجدال الحالى استدعاء تصريحات تعود لعام 2016، تتضمن دعوة ساخرة للنائبة عن حزب العمال ناز شاه بنقل إسرائيل إلى أمريكا لحل الصراع مع الفلسطينيين، وربط النائب السابق البارز عن الحزب وعمدة لندن السابق كين ليفنجستون بين الصهيونية والنازية عندما قال إن «هتلر دعم الحركة الصهيونية قبل أن يجن ويقتل 6 ملايين يهودى»، موضحاً أن تصريحاته بوجود علاقة سرية بين الحركة الصهيونية والنظام النازى فى ألمانيا فى الثلاثينيات: «حقائق وليست آراء. وإذا كان عندى اعتذار فهو لجيرمى كوربن بسبب الوقت غير المناسب لهذه الأزمة بالنسبة للحزب». هذه التصريحات أدت آنذاك إلى هجوم عنيف على كوربن وحزب العمال الذى قام ساعتها بتجميد عضوية شاه ووليفنجستون وفتح تحقيق فى الواقعتين. كما تم الاتفاق على مراجعة مدونة السلوك الحزبى بحيث يتم التصدى بشكل أكثر صرامة لكل أشكال التمييز ومعاداة السامية. ووسط كل هذا تبرز ملاحظتان فى تناول الإعلام البريطانى للجدل الجديد حول معاداة السامية وهما: الملاحظة الأولى: استمرار الحملة على حزب العمال دون هوادة رغم بيان كوربن الذى قال فيه إن «هذه الجماعات ليست مرتبطة رسميا بالحزب بأى شكل من الأشكال. وان حزب العمال ملتزم بالتصدى للحملات المعادية للسامية». والثانية: الاستخدام الفضفاض جداً وغير العلمى لمفهوم معاداة السامية. ففى كل الحالات التى أوردتها «ذى تايمز» وغيرها من الصحف، كانت التعليقات حول «شخصيات» يهودية بريطانية، وتساؤلات حول الهولوكوست، وتعليقات سلبية ضد سياسات إسرائيل أو اتهام اليهود بالسيطرة على المصارف والمؤسسات المالية الدولية. ليس هناك فى بريطانيا أسوأ من تهمة «معاداة السامية» للقضاء على مستقبلك السياسى. وعندما تأتى التهمة فى وقت انتخابات على المستوى القومى فإن الخسائر قد تكون كبيرة. فرغم أن عدد اليهود فى بريطانيا نحو 300 ألف شخص، إلا أن تأثيرهم المالى أكبر كثيراً من قوتهم العددية. وخلال الأشهر القليلة الماضية، خسر حزب العمال نحو 3% من قيمة التبرعات له بعدما رفض اكثر من 3 آلاف عضو تجديد اشتراكاتهم. وأزمة اليوم تأتى قبل نحو شهر تقريباً من الانتخابات المحلية المقررة يوم 3 مايو المقبل والتى تشير استطلاعات الرأى إلى أن حزب العمال يتقدم فيها على حزب المحافظين، خاصة فى لندن حيث يتجه الحزب الحاكم بزعامة تيريزا ماى لخسارة المئات من مقاعده فى العاصمة. وتكاد الأزمة الحالية تتطابق مع أزمة مايو 2016، عندما انهالت فجأة اتهامات معاداة السامية على حزب العمال ومرشحه المسلم لعمدية لندن صديق خان، مقابل المرشح اليهودى عن حزب المحافظين زاك جولدسميث خلال الانتخابات البلدية آنذاك. وساعتها رددت النائبة البارزة فى حزب العمال ديان ابوت، نفس ما رددته اليوم وهو أن إطلاق اتهامات معاداة السامية داخل حزب العمال فى هذا التوقيت بالذات هدفه «تشويه» الحزب وتقليص فرصه فى الانتخابات وإضعاف زعيمه كوربن، الذى لطالما كانت علاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس وموقفه من القضية الفلسطينية إحدى النقاط التى استغلت ضده فى الانتخابات المحلية 2016 والانتخابات العامة 2017. استفادت إسرائيل كثيرا من مصطلح معاداة السامية، منذ صكه الكاتب الألمانى فيلهم مار عام 1879 للتحذير من التأثير السلبى لليهود على الثقافة والهوية والمجتمع الألمانى، كما لم تستفد من أى طرح أيديولوجى سياسى آخر. فالمصطلح الذى يعنى فى كل معاجم العالم «صوراً نمطية ذهنية عدائية وتمييزية ضد اليهود كأفراد أو كجماعة دينية»، بات اليوم الجدار الذى يحمى إسرائيل من أى انتقاد أو مساءلة أو إدانة أو عقاب أو مناقشة علمية محايدة لحقائق تاريخية محضة. كما بات أشبه بسيف مسلط على الرقاب، يلعب دوراً فى السياسات الداخلية فى أوروبا. فليس من قبيل المصادفة أن تندلع أزمة معاداة السامية من جديد فى بريطانيا قبل شهر من الانتخابات المحلية فى تكرار لسيناريو السنوات الماضية. فالتهمة جاهزة لتقويض أو إضعاف أحزاب اليسار الأوروبى والجماعات المؤيدة لها والتى لطالما أظهرت تعاطفاً ودعماً للقضية الفلسطينية.