لقد دخلت مصر عالم الحداثة منذ أكثر من مائتى عام، عندما شرع محمد على فى بناء الجيش المصرى، وسن القوانين الحديثة، ونظم عمليات الرى، ووضع بدايات جيدة للتعليم الحديث الذى يقوم على اكتساب الثقافة الحديثة، وكون جماعات من أصحاب المهن المتخصصة القادرين على إدارة أجهزة الدولة المختلفة. ولقد سبقت هذه الانطلاقة الحداثية لمصر الكثير من الدول، بحيث يمكن القول إن مصر كانت رائدة فى عمليات التحديث وما يرتبط به من نقل ثقافة وعلم. غير أن المراقب لحياتنا الاجتماعية والثقافية يلاحظ أن هذا الزخم الحداثى يتدفق بين مد وجزر، وأنه يتخذ طابعاً معيناً قد يطول الحديث فى وصفه وكشف مجلياته. ولذلك سوف أركز الحديث على جانب واحد فحسب من هذه المجليات، أقصد ما نشاهده فى مجتمعنا المعاصر من تراجع واضح للثقافة الحديثة، رغم مظهرية الحداثة وبريقها، ورغم عيشنا فى عالم يشهد نمواً ضخماً فى أدوات الاتصال التى تنقل المعارف والمعلومات وتضع البشر أمام معضلات الحداثة ومكتشفاتها فى كل لحظة. وقد نسأل عند هذه النقطة: ما هذه الثقافة الحديثة التى نتطلع إليها؟ وكيف تراجعت؟ وأجيب عن السؤال الأول بالقول إننى أقصد بالثقافة الحديثة المعنى الجوانى الأصيل لكلمة ثقافة حديثة، الذى يؤشر على خصائص عديدة أهمها الإيمان بالعلم وما يترتب عليه من رشد السلوك، وعقلانيته والانطلاق الدائم الذى يجافى السكون والتوقف، والثقة التى تجافى الشك والتوجس، والتأمل الذاتى الذى يضع الماضى خلفه وينظر على نحو دائم إلى المستقبل، والانجاز الذى يقوم على تقدير العمل واحترام الوقت، وأولاً وقبل كل شيء النظر إلى الإنسان بوصفه إنساناً يعرف بإنسانيته وليس بدينه أو قبيلته أو وضعه الطبقى. وتشير هذه الخصائص إلى نمط مثالى من الثقافة الحديثة التى لا يدعى أى مجتمع فى العالم أنه يحققها كاملة أو بدرجة مثالية، فالمجتمعات تقترب أو تبتعد عن هذا النمط، وفقاً لطبيعة أدائها وقدرتها على الانطلاق. ونحن نحتاج إلى أن نضع هذا النموذج أمامنا ونحن ننظر إلى حياتنا الثقافية المعاصرة، ونحتاج إليه أكثر ونحن فى هذه الحالة من إعادة البناء. فإذا ما بدأنا فى موازاة هذه الخصائص على حالتنا الثقافية المعاصرة فسوف نجد بوناً كبيراً. فثمة ميل كبير فى مجتمعنا المصرى - ومجتمعاتنا العربية أيضاً - نحو النفور من التفكير العلمى ومن العقلانية، والدخول بحب وشغف إلى عالم السحر والخرافة والشعوذة. فالأصل فى العقل الحديث أن ينبذ هذه الأمور على سواء، وأن ينفتح على الآفاق الواسعة للعلم والعقل. ولكن المراقب عن كثب لحياتنا اليومية يكتشف الميل الشديد نحو تعميق النظرة الخرافية إلى العالم، والركون إلى التفسيرات التى لا تمل من الإشارة إلى الحسد والسحر. ولا يقتصر هذا الميل على بسطاء الناس وعمومهم، ولكنه يمتد إلى التعليم، بل وإلى من يفترض فيهم أن يكونوا قادة لبناء العقل والعقلانية من حملة شهادات الماجستير والدكتوراه الذين لا يتورعون عن ذكر تجاربهم أو تجارب معارفهم فى الحسد والسحر. وفى الوقت الذى يظهر فيه هذا الميل نحو الدخول فى عالم الخرافة، يتأكد الميل نحو الماضى ويكثر الحديث عن أمجاد الماضى والحنين إليه، ويقل التوجه نحو المستقبل. صحيح أننا نلمس توجهاً نحو الخوف على المستقبل، أو جهوداً فردية لضمان مستقبل الأولاد والأسرة، ولكن التوجه إلى المستقبل لا يشكل عنصراً جوهرياً من الميل العام فى المجتمع. ولقد أسهمت النزعات المتطرفة فى الدين واستخداماته السياسية فى تأكيد هذا الميل، عبر الإفراط فى نقد الواقع ونبذه أو اتهامه بالكفر، وعبر الدعوات المستمرة إلى العودة إلى الماضى. ويصاحب هذه الحالة نزوع كبير نحو الشك، وعدم التصديق وعدم الثقة فى الآخرين، بل نفى وجودهم أو استبعادهم أحياناً؛ وهو ظرف يؤدى إلى تراجع كبير فى مفهوم الترابط الاجتماعى وأرصدة رأس المال الاجتماعى. وإذا ما توارى العقل قليلاً أو كثيراً، وقصر النظر فى المستقبل مع إرجاع البصر إلى الماضى، وحل الشك فى العلاقات، فإن الحياة تركن إلى سكون وتوقف يجافى روح الحداثة ونبضها المتدفق. فالحداثة لا تعرف السكون، وهى تجسد حالة من البحث الدائم عن الجديد والمختلف، وعن ما يجعل الحياة أجود وأفضل. صحيح أن الحياة فى أى مجتمع متغيرة بشكل دائم، وإلا لما صح قول هيرقليطس إن الإنسان لا يمكن أن يضع قدمه فى النهر مرتين، ولكن طبيعة التغير ونوعيته ودوره فى إثراء حياة البشر وتبصيرهم بمستقبلهم، وطبيعة التغير هذه هى التى تحكم فى النهاية على حالة السكون أو التوقف. ولاشك أن هذه الحالة ترتبط بخصائص أخرى تتعلق بالانجاز وتقدير الوقت، وإجادة العمل، وحجم الإنتاجية. ولاشك أننا نعى جميعاً أن هذه التراجعات فى الثقافة ليست خصائص ثابتة لدى الإنسان المصرى، فقد صنع هذا الإنسان الحضارة وأسس لفجر ضميرها الإنسانى، كما أنه يؤكد، فى وجوده غير المنقطع فى مواطن إنجاز ومسئولية عبر العالم، أنه قادر على صناعة المعجزات. بل إن تاريخنا الحديث - رغم هذه التراجعات التى أصابته - قد قدم لمصر وللبشرية انجازات عظيمة. ولذلك فإن هذه التراجعات لا تعزى إلى الإنسان بقدر ما تعزى إلى الظروف التى أحاطت به (فالإنسان يصنع تاريخه بيده ولكنه لا يصنعه فى ظروف من صنع يده على ما يقال). ومن أهم هذه الظروف إهدار التعليم الجيد، وإهدار تكوين العقل المستنير حامل الثقافة الحديثة بمعناها الجوانى العميق. إن الإنسان هو الذى يبنى الحضارة، وهو الذى يحقق الانجازات الكبرى، والإنسان ليس كتلة من اللحم يأكل الطعام، ولكنه يمشى فى الأسواق أيضاً، ليبنى حضارة. ولا يكون بمقدوره أن يفعل ذلك دون أن يحمل فى داخله عقلا حداثيا مستنيرا، قادرا على أن يفكر فى اليوم والغد، وأن يفتح لنفسه آفاقاً مستمرة للعمل والانجاز، وأن يثق فى ذاته ومجتمعه، وأن يتعامل مع ذاته ومع الآخرين فى ضوء مفهوم الإنسان، المعروف بإنسانيته وليس بأى شكل آخر من أشكال التعريف. لمزيد من مقالات د. أحمد زايد