قصة النسخة النادرة «فى الشعر الجاهلى» التى اشتريتها من سور الأزبكية فى رحلة تفتح الوعى فى حياة الإنسان تبدو الكتب كواحات ذوات ربوة وقرار، وكنجوم تضيء أفق العقل الإنسانى وتزين سماءه وبها يهتدى فى ظلمات الجهل والغفلة ويبقى سحر التجربة الأولى مع أول كتاب وتظل تلك التجربة عالقة فى الذكريات لا ينطفئ وهجها مهما قرأ الإنسان من كتب أو بلغ من ثقافة. فى مكتبته التى تبدو كمحراب عابد وفى منزله بالعجوزة، كان حوارنا مع الدكتور عاصم الدسوقى المفكر والمؤرخ الكبير والعميد السابق لكلية الآداب جامعة حلوان صاحب المواقف المعروفة فى القضايا الفكرية والسياسية. والدكتور عاصم يتلقاك بوجه مصرى صميم امتزجت فى قسماته علامات الطيبة مع الصرامة مع الصبر مع الاعتزاز مع التواضع وكأنما ارتسمت على وجه خلاصة مزيج تاريخ صهرته القرون على ضفاف النيل لتوزعه على أبناء واديه جيلا بعد جيل فى الفلاح والعامل والعالم والمفكر والفنان على اختلاف فئاتهم وثقافاتهم على مر الزمان. «التأسيس على الأصول» وعن تجربته مع الكتب حدثنا الدكتور عاصم عن أول كتاب أثر فى حياته واعتبره نقطة تحول فى مشواره الثقافى والعلمى وكان ذلك الكتاب هو كتاب «فى أصول المسألة المصرية» عندما كان طالبا فى كلية الآداب جامعة عين شمس فى نهاية خمسينيات القرن العشرين فقال: كان هذا الكتاب نقطة تحول فى وعى الثقافى وكان الذى حدثنا عنه هو أستاذنا الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى أستاذ التاريخ فى الجامعة وكان ذلك إبان دراستى فى السنة الثالثة فى الكلية، حيث كنا فى عام 1959، فى ذلك الوقت يذكر أنه لم تكن هناك كتب جامعية مخصصة فقد كنا نعتمد على المراجع والكتب الذى يذكرها المحاضر فى محاضراته وكانت العملية التعليمية الجامعية تعتمد على البحث فى الكتب التى لابد من أن نرجع إليها للبحث والدراسة وقد بحثت عن هذا الكتاب الذى كان قد صدر فى عام 1950 وكان حدثا عظيما واستقبلته الأوساط الثقافية والعلمية بترحاب كبير وهو من تأليف الدكتور صبحى وحيدة وبحثت عن الكتاب حتى وجدت نسخة منه على سور الأزبكية عند زيارتى لسور فى إجازة نصف العام الدراسى فى يناير 1960 وكانت النسخة منزوعة الغلاف الخارجى ولكنها تحتفظ بغلافها الداخلى وكاملة، فاشتريت الكتاب دون تردد. وكان هذا الكتاب فتحا جديدا فى حياتى فهو يفسر التاريخ المصرى حسب تأثير العوامل الداخلية وليس الخارجية فقط، وكان صبحى وحيدة أول من نبه إلى هذا الأمر الخطير ولم يتعامل مع التاريخ على أنه مجرد تراكم للأحداث ينتظر فيه المصريون من يأتى إليهم ليغيرهم فالعوامل الخارجية لا تؤثر على تطور التاريخ إلا من خلال العوامل الداخلية. كيف ذلك؟! أضرب لك مثلا بالاحتلال الخارجى وليكن الاحتلال البريطانى هو المثل الذى تعرضت له مصر ولكنه اختلف تأثيره فى مصر عن غيرها من البلاد الأخرى التى تعرضت لهذا الظرف الخارجى كالهند والبلاد الإفريقية، فلن تجد النتائج واحدة ولا متشابهة رغم التعرض لعامل خارجى واحد المتمثل فى الاحتلال ولكن العوامل الداخلية فى كل بلد كان لها تأثيرها. والكتاب مفعم بالأفكار ويتطلب تركيزا عاليا فى تتتبع الفصول ولكنه ممتع إلى درجة أننى رحت أتتبع حياة المؤلف نفسه وهو الدكتور صبحى وحيدة والذى كان سكرتير اتحاد الصناعات المصرية الذى كان يترأسه إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء الأسبق ، قام بتشكيل عدة وزارات على عهدى الملك فؤاد وابنه الملك فاروق. وبالطبع لم أعرف الدكتور صبحى شخصيا ولم أقابله لأنه كان قد رحل فى حادث مؤسف قبل قراءتى الكتاب بعدة أعوام، لكنه كان ومازال من أهم الكتب لدى وأعتبره كتابى الأول لأننى تأثرت به تأثيرا عظيما. »ويذكر أن الكتاب تم طبعه وصدر عن مكتبة الأنجلو فى 1950 ووزعت منه 80 ألف نسخة هو رقم يعتبر إعجازا فى ذلك الوقت وقد تأخر طبع الكتاب مرة أخرى طويلا حتى بداية عقد الثمانينيات عن مكتبة مدبولى، كما صدر عن الهيئة المصرية العامة التى استجابت لدعوة من الدكتور أنور عبد الملك منذ فترة قريبة والذى وجهها عبر الأهرام سنة 2000 لإعادة طبعه فى مكتبة الأسرة ليطلع عليه أكبر عدد ممكن من القراء وهو ما تم بالفعل بمقدمة دراسية للدكتور أنور عبد الملك». «تجربة حمدان» ومن كتاب الدكتور وحيدة يقفز بنا الدكتور عاصم الدسوقى ما يزيد على 7 سنوات بعد قراءته، ليحدثنا عن واحد من أشهر وأهم الكتب فى التاريخ المصرى المعاصر وهو كتاب «شخصية مصر» وينبهنا الدكتور عاصم إلى أمر مهم فى هذا الشأن، إذ أن الكتاب صدر فى أوائل شهر يوليو من عام 1967 ولم يكن مر على نكسة يونيو 67 فقال: كان هناك ربط خاطئ بين صدور كتاب شخصية مصر وبين تاريخ صدوره، إذ ظن كثيرون أن الكتاب صدر كرد فعل على الهزيمة وأن حمدان كتبه وصدر عن مؤسسة دار الهلال «سلسلة كتاب الهلال» على أثر هذه المناسبة الحزينة ولكن إعمال العقل والمنطق مع الواقع، يؤكد كذب هذا الظن، إذ أن الكتابة والإعداد والأعمال الروتينية التى تلازم عملية النشر تقول لنا إن حمدان أنهى كتابه وسلمه للناشر قبل تاريخ صدوره بشهر على الأقل، أى أن الدكتور جمال حمدان قد وضع بقلمه آخر نقطة فى الكتاب، قبل بداية الحرب ووقوع الهزيمة. والذى صدر كان هو الكتاب الأصلى إذ أن حمدان قام بعد ذلك بتأليف أجزاء أخرى مفصلة عن جغرافية الأقاليم المصرية وتكونت منها الموسوعة التى تحمل نفس عنوان الكتاب الأول وهو كتاب فارق فى حياتى الثقافية والعلمية وكنت أيامئذ قد أنهيت دراستى الجامعية منذ عدة سنوات قبلها وبدأت مشوار مرحلة البحث الأكاديمى وهذا الكتاب كان فتحا جديدا تماما ككتاب الدكتور وحيدة لأن جمال حمدان هو أول من أشار إلى التفسير الجغرافى للتاريخ. هل ترى معى أن كتاب شخصية مصر هو الموازى الجغرافى لكتاب «فى أصول المسألة المصرية» أو أن كتاب وحيدة هو المقابل التاريخى لكتاب حمدان. يمكن ذلك فكلا الكتابين مرتبط بالآخر وإن تباعد المؤلفان ولكن كل منهما فتح أبوابا جديدة أمام القارئ ليتعرف على مصر مكانا وزمانا ولكن أود أن أشير إلى أمر هام فى كتاب شخصية مصر وهو تركيز حمدان على النواحى السلبية فى شخصية الإنسان المصرى من اتهام حمدان للمصرى بنفاق السلطة وتملقها بإطلاق وتعميم غير مبرر ورغم إعجابى الشديد بإنتاج الدكتور حمدان إلا فإننى أرى أن تلك الإدانة كانت بسبب شخصية جمال حمدان نفسها، فهو كان شديد الاعتداد بنفسه ويعيش فى عزلة قاسية وقد أبعد نفسه عمن حوله حتى زملاءه الذين بلغت بينه وبينهم الجفوة مبلغا عظيما ولم تقتصر على المنافسة العلمية فقط وكان زملائه حمدان فى الجامعة يتهمونه بالاستعلاء عليهم وبالتكبر والغرور وقد انتهت حياته العلمية فى كلية الآداب جامعة القاهرة نهاية مؤلمة. هل اقتربت من جمال حمدان أو تعاملت معه شخصيا خاصة أنه يسكن بالقرب من منزلك؟ لم يحدث أن التقيت به لأنه رحمه الله فرض على نفسه عزلة شديدة ولعلك تذكر نهايته المأساوية لكنه ترك كتابا عظيما وتأثرت به شخصيا كما تأثر به غيرى. «من طه حسين إلى حسين هيكل» ومن كتاب جمال حمدان ينتقل الدكتور الدسوقى إلى كتاب آخر وقعت نسخة منه تحت يده برغم ندرتها وهى نسخة الطبعة الأولى من كتاب فى الشعر الجاهلى الذى صدر فى عام 1926 وآثار الأعاصير التى مازلنا نسمع صداها إلى اليوم وقبل ان أحدثك عن موضوع الكتاب أود ان أذكر واقعة طريفة وقعت معى، حيث اعتبرت نفسى محظوظا بها، فقد كنت فى إحدى زياراتى إلى سور الأزبكية وفى اثناء تقليبى فى الكتب المعروضة للبيع عثرت على تلك النسخة النادرة ولم يكن سبب ندرتها ان الطبعة الأولى قد اختفت تماما وبدل طه حسين عنوان الكتاب فى طبعته الثانية إلى «فى الأدب الجاهلى». فقد وجدت على النسخة إهداء مكتوبا بخط اليد «إلى محمد حسين هيكل باشا» ورحت أقرا الكتاب بنهم لأجد المفاجأة الثالثة بعد مفاجأة عثورى على النسخة والإهداء، حيث وجدت خطوطا بالقلم تحت عبارات وردت فى صفحات الكتاب وهى العبارات نفسها التى أثارت الزوابع على طه حسين وكتابه. وكتاب طه حسين هذا كتاب مهم جدا ويعتبر نموذجا حقيقيا لما نلح الآن عليه فى الطلب بضرورة تجديد الخطاب الدينى، فسواء اتفقنا أم اختلفنا على القضايا التى أثارها، إلا أن أهمية الكتاب فى أنه استخدم المنهج العقلى فى دراسة النصوص التراثية وكانت خطوة مهمة فى عالم الفكر، فقد أعمل طه حسين عقله واتبع منهجا علميا فى دراسة النصوص التراثية وحتى بعد أن تغير الكتاب وخرج فى صورته الثانية ظل علامة كبيرة على طريق تجديد الخطاب الدينى وإن كان موضوعه الشعر الجاهلى وبعض القضايا الأدبية والتاريخية، ولا تنس أنه ورد فى إهداء الكتاب بعد تعديله «الذين لا يعملون ويؤذى نفوسهم أن يعمل الناس». ومحاولة طه حسين تلك تشبه لدى محاولة المعتزلة فى الاعتماد على إعمال العقل فى النصوص الدينية وكان ذلك فى العصر العباسى وكانت بسببه محنتهم. وفى الفترة نفسها التى صدر فيها كتاب طه حسين كان قد صدر كتاب آخر من الكتب المؤسسة ولا يقل شهرة عنه وهو كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق والذى صرح فيه بتصريحات خطيرة وهى أن الإسلام دين لا دولة ورسالة وليس نظاما للحكم. «ابن شبرا » والدكتور عاصم ولد فى المحلة الكبرى عام 1939 من أب كان يعمل موظفا فى مصانع الغزل والنسيج وهو فى الوقت نفسه من أبناء المحلة، بينما كانت الوالدة من قرية قصر نصر الدين بالمحافظة نفسها وفى عمر العامين تقريبا انتقلت الأسرة مع الأب إلى القاهرة بعد نقل محل عمله، حيث سكنوا فى حى شبرا وهناك كانت نشأة عاصم الدسوقى وارتبط بهذا الحى العريق فى حياته الأسرية والتعليمية، حيث كانت كل مراحل تعليمه فى شبرا منذ أن التحق بمدرسة النهضة الابتدائية وحتى أنهى دراسته الجامعية متخرجا سنة 1961 فى كلية الآداب جامعة عين شمس التى كان مقرها فى شبرا فى ذلك الحين. ولعل انتماءه الأسرى مع ولادته فى المحلة الكبرى وهى أكبر تجمع عمالى فى مصر، قد أثر على اتجاهات الدكتور عاصم، خاصة مع نشأته فى حى للطبقة الوسطى ذى الطابع الشعبى ولشبرا شخصية متميزة بين أحياء القاهرة فى التناغم السائد بين سكانها فكأنهم هناك أسرة واحدة لكنها عملاقة تمتد بطول وعرض شبرا، ذلك التناغم تشهده حتى الآن هناك ولا تجد تمايزا بين الناس هناك لا بسبب الانتماء الدينى ولا المستوى الاقتصادى ولا حتى الأصول الإقليمية، ففى شبرا المسلم والمسيحى والفلاح والصعيدى حتى الذين انحدروا من أصول غير مصرية كاليونان والطليان والأرمن وغيرهم، انصهروا فى ذلك الحى العتيد. واختار الدكتور عاصم مجال عمله فى وسط فئات العمال، فعمل بمعهد التدريب المهنى وبعد عامين التحق بالمؤسسة الثقافية العمالية فى منطقة معروف وسط القاهرة والتى تحولت فيما بعد ذلك إلى «الجامعة العمالية» كما أسهم فى نشر الثقافة العمالية من خلال إصدار نشرة ثقافية من إدارة البحوث التى كان يعمل وكيلا لها وكان يكتب عمودا فيها بعنوان «العمود الأخير. وكان كتاب شهدى عطية الشافعى «تاريخ الحركة الوطنية» من الكتب ذات العلامات فى الحياة الثقافية والعلمية للدكتور عاصم الدسوقى ولا ينكر إعجابه بالمنهج الماركسى فى دراسة التاريخ فيقول: المنهج المادى فى تفسير حركة التاريخ كان أكثر قبولا لدى من الفلسفة المثالية، فماركس يرى أن حركة الديالكتيك المثالى عند هيجل تخضع حركة التاريخ لعوامل فوقية، لذلك قرر ماركس أن يعيد الوضع الطبيعى لتفسير التاريخ من خلال العوامل التحتية والتفاعلات الاقتصادية ومع ذلك لم أنتم يوما للفكر الماركسى مع إعجابى وتأثرى بتفسيره لإشكالية التاريخ عن مثالية هيجل، فما جذبنى هو الجانب العلمى والاقتصادى لأن الإنسان ابن الظرف الموضوعى. ولذلك كان موضوع رسالة الدكتوراه التى حصلت عليها سنة 1973 بعنوان «كبار ملاك الأراضى الزراعية فى مصر من سنة 1914 إلى سنة 1952». «مع نجيب محفوظ» وعن الأدب فى بدء التكوين الثقافى لعاصم الدسوقى، فيشير إلى أن أول قراءاته فى الأدب كانت رواية «بعد الغروب» للأديب الكبير محمد عبد الحليم عبد الله، كانت رواية رائعة فى رومانسيتها وطريقة سردها التى تميز بها أدب عبد الحليم عبد الله، لكن انبهارى كان أكثر بعالم نجيب محفوظ، فبعد أن قرأت «بين القصرين» انفتح أمامى عالم جديد يمكن لى أن أراه على الواقع ولذلك قررت الذهاب إلى المواقع الحقيقية التى دارت فيها الأحداث فبدأت من حى «الحسينية» التى كان تسكن فيها عمتى التى كان زوجها مأذون المنطقة، فكنت أبدأ الرحلة سيرا على الأقدام من الحسينية وعبر باب الفتوح إلى حى الجمالية وأسلك الحوارى والدروب وأجلس على مقهى الفيشاوى واستطعت تحديد مكان محل السيد عبد الجواد من خلال وصف نجيب للمكان، عندما كان كمال ابنه يتحاشى المرور من أمام محل أبيه فيسير فى درب قرمز، فسرت بالفعل حسب الوصف فى الدرب وتيقنت ساعتها أن كمال عبد الجواد هو نجيب محفوظ شخصيا. كما كنت أحضر أحيانا اللقاء المفتوح لنجيب محفوظ وأستمع لنوادره وأذكر ما حكاه مرة عن زيارة جمال عبد الناصر للأهرام، فعندما صافح كبار الكتاب والصحفيين كان يسلم على كل واحد منهم باسمه «أهلا يا أستاذ فلان وكان بصحبته محمد حسنين هيكل وعندما صافح نجيب محفوظ قال له بلكنة مميزة «أهلا يا سى نجيب» فقال نجيب محفوظ ساعتها عرفت أنه قرأ رواية «ثرثرة فوق النيل» التى منعوا توزيعها ولكن أفرج عنها بأمر من عبد الناصر نفسه!. ولابد أن أشير وأشيد بكتاب كبار أثروا فى تكوين الوعى لدى مثل لويس عوض ويوسف إدريس الذى جذبنى عالمه فى القرية «رواية الحرام» والمدينة «رواية «العيب». «عطاء لا ينفد» ومن خلفه مكتبته الكبيرة بدا الدكتور عاصم الدسوقى وكأنه له مع كل كتاب حكاية، هذا غير كتبه التى قام بتأليفها فى رحلة العمر منذ أن انخرط فى سلك التعليم الجامعى فقام بالتدريس فى كلية الآداب جامعة أسيوط وكان مقرها فى سوهاج منذ عام 1974 وحتى عام 1994 ثم استدعاه الدكتور محمد الجوهرى رئيس جامعة حلوان ليطلب منه تأسيس كلية للآداب فى جامعة حلوان عام 1995 تولى عمادتها وهى الكلية التى لا يزال يلقى فيها محاضراته فى التاريخ المعاصر كأستاذ متفرغ منذ بلوغه سن المعاش.