بسبب سوء الأحوال الجوية.. قرار هام حول موعد الامتحانات بجامعة جنوب الوادي    ننشر المؤشرات الأولية لانتخابات التجديد النصفي بنقابة أطباء الأسنان في القليوبية    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    قبل عودة البنوك غدا.. سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 27 إبريل 2024    مصر ستحصل على 2.4 مليار دولار في غضون 5 أشهر.. تفاصيل    صندوق النقد: مصر ستتلقى نحو 14 مليار دولار من صفقة رأس الحكمة بنهاية أبريل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    جماعة الحوثي تعلن إسقاط مسيرة أمريكية في أجواء محافظة صعدة    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل    شهداء وجرحى جراء قصف طائرات الاحتلال منزل في مخيم النصيرات وسط غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    تصرف غير رياضي، شاهد ماذا فعل عمرو السولية مع زملائه بعد استبداله أمام مازيمبي    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    نداي: أهدرنا العديد من الفرص ضد دريمز.. والجماهير تنتظر وصولنا لنهائي الكونفدرالية    كولر: النتيجة لا تعبر عن صعوبة المباراة.. لم أر مثل جمهور الأهلي    عبد القادر: تأهلنا للنهائي بجدارة.. واعتدنا على أجواء اللعب في رادس    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيطرة على حريق في منزل بمدينة فرشوط في قنا    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    تعرض للشطر نصفين بالطول.. والدة ضحية سرقة الأعضاء بشبرا تفجر مفاجأة لأول مرة    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    الأمن العام يكشف غموض 14 واقعة سرقة ويضبط 10 متهمين بالمحافظات    برازيلية تتلقى صدمة بعد شرائها هاتفي آيفون مصنوعين من الطين.. أغرب قصة احتيال    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    دينا فؤاد: تكريم الرئيس عن دوري بمسلسل "الاختيار" أجمل لحظات حياتي وأرفض المشاهد "الفجة" لأني سيدة مصرية وعندي بنت    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    ناهد السباعي تحتفل بعيد ميلاد والدتها الراحلة    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 02 - 2018

ربما كان ضربًا من الجليطة عندما قلت للصديقة الراحلة سعاد حلمى رئيسة تحرير مجلة حواء فى الثمانينيات إننى أحسدها لأن شقيقتها الدكتورة منيرة حلمى زوجة للأديب المفكر الفيلسوف الكبير زكى نجيب محمود، وأذكر أننى تماديت فى حسدى لدرجة التصريح بأننى لو كنت فى مكانتها المقربة لذلك العملاق لما تركت بيت أختى لأى مكان آخر، بل وحملت حقيبة هدومى للعيش معها لأجلس نهارى وليلى إليه أسمع منه وأنصت له وأتملى من نور علمه وثاقب فكره وهدوء توصيله للمعلومة.. فلما جاءنى ردها محبطًا بأن الهالة حاجة والحقيقة على أرض الواقع حاجة تانية خالص، اكتفيت بعدها بزيارة الدكتور مرة ثانية فى شقته بشارع أنس بن مالك المطلة على النيل بكوبرى جامعة القاهرة، بعدما كنت قد جلست إليه مسبقًا لأُجرى حوارًا معه، وعُدت لأكتب ما لم يذكره الدكتور زكى لأحد من قبل وبالطبع فى حضور زوجته : «كنت فى شبابى حاد الانفعال قوى العاطفة خصوصًا إذا كان فى الأمر اختلاف على رأى، فمهما يكن الموضوع الذى يدور حوله الجدل، فقد كنت أدافع عن فكرتى فيه بحرارة ملتهبة مشتعلة، وكأن الحياة كلها ترتكز علي
صواب فكرتى..وكنت شديد الحزن إذا خسرت فى اللعب، شديد الفرح إذا فُزت فيه، وكانت عروقى تغلى أيامًا طويلة إذا ما غضبت لإهانة لحقتنى ولم أستطع ردها، كما كان دمى يوشك أن يجمد كلما أصابتنى خيبة فى رجاء كنت أرجوه.. لقد علمتنى الحياة برودة العواطف، وعلمتنى أن العاطفة الحادة معناها عجز فى قوة التفكير.. نعم إن لذة الحياة قد نقصت حين بردت العواطف فى نفسى، لكن آلام الحياة كذلك قد نقصت تبعًا لذلك.. ولست أتردد فى أن أختار القليل من اللذة والألم معًا، على الكثرة منهما معًا، فإذا لم تعد لى لذة الحب العنيف الذى يتمتع به الشباب، فإننى إلى جانب ذلك مستريح البال من أوجاعه وآلامه، ولئن كان الشاب يعرف الحب، فالشيخوخة تعرف كيف تكون الصداقة؟ وما الصداقة إلا حب هدأت فيه العاطفة، وزالت عنه شرورها، والتزام الواقع فى هدوء بعيدًا عن صخب العاطفة وصراخها هو بعينه ما نسميه بخبرة الحياة.. وما أغزر الدماء التى أراقتها حروب النزوات الفردية، وكم كان الناس يكونون سعداء فى فردوس أرضى لو هدأت عواطفهم بين جنوبهم، فلم تدفعهم دفع الضلال الأعمى»..

ويروى لى الدكتور زكى تلك اللقطة البسيطة فيقول: «لقد كنت ذات يوم أنظر مع صديقة لى إلى أحد مشاهد السيرك فى لندن الذى أجاد فيه اللاعبون حتى إذا ما فرغوا صفق جميع الحاضرين بشدة لكننى جلست ساكنًا ولم أصفق فسألتنى صديقتى: لماذا لا تصفق مع الناس؟! فأجبتها: إنها خبرة السنين».
واستدرت يومها إلى الدكتورة منيرة حلمى رفيقة دربه اسألها إذا ما كان ذلك التغير فى شخصية زوجها من رجل سريع الانفعال مشتعل العاطفة حاد المشاعر إلى إنسان آخر يسيطر عليه الهدوء والتحكم فى عواطفه، واستخدام عقله قبل أى شيء آخر، وتسمية تلك المرحلة الناضجة فى حياته باسم «البرود العاطفى».. سألتها إذا ما أسعدها ذلك، أم أنها صفة سلبية لم يكن من المفيد له ولها الالتزام التام بها، فما له الحب المتأجج المشتعل دومًا؟!
د. زكى نجيب محمود رائد الدعوة الى تجديد الخطاب الدينى

تُجيبنى سيدة الفلسفة التى حازت فيها على درجة الدكتوراه هى الأخرى: «الدكتور بصفة عامة هادئ الطباع، ولا يكون عنيفًا إلا مع من يريد العودة بنا القهقرى، وغضبه يعود إلى الخرافات التى مازالت متفشية فى الواقع المصرى وبين المتعلمين بوجه خاص».. وأعود اسألها عن معشره: «حلو المعشر.. سهل المعشر.. سلس المعشر. ليس له طلبات خاصة، ومُنظم فى جميع شئونه بل أكثر تنظيمًا منى.. ويصارحنى بكل شىء، ومن هنا نعجب للأزواج الذين انقطع بينهم الحوار»، وترفع الدكتورة منيرة للدكتور زكى عينيها بنظرة امتنان: «سافرنا للكويت للعمل بالجامعة معًا من عام 1968 حتى 1973 الجامعة التى احتفلت أخيرًا بمئوية الفيلسوف ليذكر أساتذتها بأن قسم الفلسفة بها لايزال يستلهم من عطائه ليمارس دوره التنويرى حتى الآن ولأنى كنت أتأخر بعده كان ينتظرنى فى المكتبة، وعندما أصل متأخرة لأبادر بالاعتذار كان يقول إنها فرصة للاطلاع على كتب من الثقافة العربية لم يقرؤها من قبل، ومن هنا أهدى لى كتابه (المعقول واللامعقول) لأنه كما قال لى لولا انتظاره لقدومى لما كتبه».. ولم يكن الدكتور بل الدكتورة هى التى انفعلت عندما سألتها عن عزلة البرج العاجى التى يعيشان فيها: «نحن لا نعيش فى عزلة، بل نسافر سنويًا إلى انجلترا لقضاء شهرين، وبيتنا على الدوام ملتقى للمثقفين المهتمين بكافة القضايا الثقافية والاقتصادية والسياسية والفنون بكل جوانبها من تشكيلية وموسيقية ويدوية وسمعية».
ولكى ننتقل بحواء من غضبتها إلى غبطتها نسألها بشأن النظرة والسلام والكلام والموعد والارتباط الذى تم فى عام 56 عندما تزوجت الطالبة منيرة حلمى من أستاذها الدكتور زكى نجيب محمود فى زمن كانت مصر فيه تمر بمرحلة انتقالية مصيرية:
- أستاذى فى الجامعة وكنت طالبة مهتمة بكل ما يكتب.. وبدأت مبكرًا أكتب معه فى مجلة الثقافة، فى الوقت الذى كانت تربطنى صداقة حميمة مع أسرته مما ساعد على التقارب، ومع الأيام نكتشف فى لحظة فارقة أننا معًا نمثل وحدة فريدة.. التفكير واحد والمشاعر واحدة، والسمات الشخصية متقاربة، مع رغبة مشتركة فى زيادة الاقتراب، ومن هنا جاء الزواج طبيعيًا، فكان لى أبًا وأخًا وأستاذًا وصديقًا، وكنت وقتها أدرس للماجستير فى أمريكا فى أحد فروع علم النفس، وعندما أنهيت الماجستير فى عام واحد فقط عرضت أمريكا علىّ منحة للدكتوراه، ومثلها جاءتنى من جامعة عين شمس فى القاهرة، وفى التوقيت نفسه تقدم من اخترته طالبًا الزواج، وكان قرارى بالطبع بالعودة فقد رجحت كفته عن أى بعثة علمية خارج بلادى، وعدت لأستكمل دراستى فى كنفه داخل مصر..
● خلافاتكما؟
- ذات طبيعة خاصة فهو دارس للفلسفة وقارئ لعلم النفس، وأنا دارسة لعلم النفس وقارئة للفلسفة، وخلافاتنا داخل الإطار العلمى، وبعضها حول علاقتنا بالآخر، فهو ينظر للسلوك الظاهرى للبشر بغض النظر عن الباعث خلف هذا السلوك، وأنا بحكم شخصيتى ودراستى أقوم بالتدقيق، وهو على المستوى الإنسانى أقرب إلى التشاؤم، وإن كان تشاؤمه فلسفيًا أكثر منه بالمعنى الشخصى، لأنه على المستوى الإنسانى يحب البساطة ويستمتع بالنكتة والفكاهة ويجد حماسًا خاصًا لصداقة الشباب ومجالستهم ومحاورتهم، وفى علاقتى به يشعرنى دائمًا بحاجته لى ويكره ابتعادى عن محيطه ودائرته وعينيه حتى أنه فى محاضراته العامة لابد وأن أكون فى الصف الأول تجاه منصته... وفى اليوم الذى بدأ يفقد فيه الوعى قلت له إننى سأذهب إلى الكلية لأطلب اجازة رعاية زوج، فرد علىّ بانفعال: أرجوكى لا تفعلى ذلك، لا تُدخلى شئون حياتك الخاصة فى عملك، وفى نفس اليوم نُقل إلى المستشفى ليتوفى بعد أسبوع وتكون هذه آخر نصائحه لى.
● طقوسه؟
- يرتب حقيبته ويجهّز جميع احتياجاته دون طلب لمساعدة، وليس ميالا للبذخ، ويكتب فى الصباح حتى الظهر بصورة مباشرة دون مسودة أو آلة كاتبة، وهو شديد النظام فى حياته وأوراقه وملابسه ومكتبه.. عشت معه كثيرًا فى كتاباته المنشورة وغير المنشورة، وحين ينشغل بشيء منها فإنه يظل قلقًا فلا ينام كثيرًا ويظل يتقلب على جمر حتى تتضح الفكرة فيقوم لكتابتها، وإن كنت أؤكد أنه لم يحدث أن مكث الليل كاتبًا، وكان رافضًا للمناصب سواء كان المنصب سياسيًا أو إداريًا، فقد كان يرى أن هدفه هو التعبير بالفكر فى الكتابة، والفعل فى الواقع.. لم أعرف معه ازدواجية المثقفين، لكننى عرفته موقفًا واحدًا فى الكتابة وفى الحياة وكان رأيه فى تقدم الغرب وتأخر المسلمين لأننا نعتمد على «الكلامولوچيا» فى حين يعتمد الغرب على «التكنولوچيا» وهذا معناه أننا نعتمد على الأقوال والشعارات لا الأفعال.. وحول الأكثر أهمية وتأثيرًا عنده (العقاد) أم (طه حسين) أى تيار (العقاديون) وتيار (الطحاسنة) فقد كان يميل إلى الرجلين معًا، فتأثر بالعقاد فى شخصه وروحه وعصاميته، وتأثر بطه حسين فى جرأته ومنهجيته وشغفه بالمعرفة، وكان معياره عامة هو معيار الجرأة والفتح وارتياد الطُرق الوعرة، والذين أثاروا زوبعة حول مقالاته (ردة المرأة) لم يدركوا الهدف منها ولا السياق التاريخى لها، كان يؤيد أن تكون المرأة مسئولة عن حريتها، وأستطيع أن أؤكد أنه لم يتحدث عن الحجاب الذى يظهر فيه الوجه والكفان، ولكن كان حديثه منصبًا على النقاب..
● الدكتور.. هل كان جادًا دائمًا فى جميع المواقف؟
- بالعكس كان مرحًا ويشعر بالمرارة لتصور الناس أنه عابس، وأذكر مرة على أبواب الجامعة عندما وجدته يضحك بشدة ثم يقول بأسى بأن أحد الطلبة الذى رآه يضحك توقف ليقول له هذه هى المرة الأولى فى حياتى الجامعية التى أراك تضحك فيها يا دكتور! والحق أن الألم كان يعتصره عندما يسأله أحدهم: مالى أراك واجمًا، وكان يجيب باستمرار: لا ليس ما بى من وجوم وإنما هى خلقة ربنا.. وكان يقول لطلبته تزوجوا واستمتعوا بحياتكم قبل أن تخيبوا كما خبنا، وكان يقصد بذلك أنه مكث طويلا أعزب وكيف أنه نَدمَ على ذلك بعد زواجه بى.. وربما كانت عبارة سمعها زكى نجيب محمود وهو لم يزل فى الرابعة عشرة من عمره من صديق لوالده ينصحه فيها بأن «يكف عن تعليم ابنه زكى بسبب قصر فى البصر من شأنه أن يحول بينه وبين وظائف الحكومة» إلا أن هذه العبارة بدلا من أن تكون عند هذا الابن عامل تثبيط وإحباط كانت حافزًا على مضاعفة القراءة والاجتهاد، فقد ترجمها إلى كلمة واحدة هى (التحدى) الذى يعطى الإحساس والحيوية والنشاط.. فى قرية ميت الخولى عبدالله التابعة لمدينة فارسكور بمحافظة دمياط التى أُسر فيها لويس التاسع ملك فرنسا فى طريق عودته متقهقرًا بعد أسره فى دار ابن لقمان بالمنصورة، هنا ولد زكى نجيب محمود فى أول فبراير 1905 ومن هنا كانت احتفاليتنا بمئويته مع شهر مولده وكانت أسرته محافظة تنتمى إلى الطبقة المتوسطة التى تعنى إلى حد الإسراف فى الاعتناء بأبنائها وبناتها، ولم يكن يسمح لزكى وهو طفل باللعب فى الشارع أو زيارة الأصدقاء، وفى التاسعة انتقل أبوه إلى السودان ليُكمل تعليمه حتى الثانوية ويعود للقاهرة وعمره إحدى وعشرون سنة ليلتحق بالمعلمين العليا ويعمل مُدرسًا بعد تخرجه أفنديًا عام 1930 وينال الدكتوراه فى الفلسفة من جامعة لندن فى 1947 ويقوم بالتدريس فى جامعة كولومبيا وواشنطن التى عمل مستشارًا ثقافيا بسفارتنا بها.. وتاريخ طويل حافل بالشهادات والإنتاج، ومنذ عام 1973 وحتى وفاته فى سبتمبر 1993 ظل ابن قرية ميت الخولى عبدالله يكتب مقاله الأسبوعى على صفحات الأهرام بعنوان «من مفكرة زكى نجيب محمود» وعند بلوغه الخامسة والثمانين لم يَسْرَ الوهن فى قلمه بل اعترته انتفاضة سحرية شابة أمدته بتأجج خرافى فسارع بطغيانها يكتب مذكراته «حصاد السنين» التى عاشها ينهل فيها الثقافات ويمنحها نهرًا زاخرًا للعطشى.. لم يعد بنا الدكتور صاحب الفكر إلى سنوات طفولته ورعشة الحب الأولى ومقالب التلامذة، وإنما اختار من بعد ما علمته الحياة برودة العواطف الحديث عن ستين عامًا عاشها بدأت من عام 1930 وانتهت فى 1991 قال فيها الكثير عن الفن والعلم والأدب والتاريخ والحروب والإنسان والقهر، واختار أن يصف كتاب سيرة حياته بأنه «تغريدة البجع».. ولكن هل للبجع تغريدة؟ نعم. إذا عرفنا أن البجعة وهى تلفظ آخر أنفاسها تخرج نغمة أجمل ما تكون من النغمات وقعًا على آذان البشر.. إنها تئن أنين الحى وهو على حافة النهاية التى ينتقل بها من الحياة إلى الموت، ولكن البشر لا يأبهون بآلام البجعة المحتضرة فى أنينها، إذ أن ذلك الأنين فى أذانهم له وقع التغاريد بحلاوة أنغامها، ومن هذا المعنى يأخذ زكى نجيب محمود وصفًا لمذكراته التى يكتب فيها عن بدايات وعيه بالقضية الفلسطينية عندما شعر فى بداية الثلاثينيات برغبة شديدة فى السفر إلى القدس الشريف فى فلسطين: «غادر القطار القاهرة ساعة الغروب ووصل إلى محطة (اللد) عند مطلع الفجر، ونزل صاحبنا ليستقل قطارا ثانيا إلى القدس لم يكن فيه إلا رجل واحد ارتدى زيه (الكاكى) الذى كان شبيهًا بأزياء الجنود، وكان الرجل بلا حقائب، شبك يديه خلف ظهره وهو يمشى على رصيف المحطة جيئة وذهابًا، واعترضه صاحبنا بسؤال ظن منه أن الصلة الكلامية فى مثل هذا الظرف أمر واجب حتى ولو لم يكن الكلام يحمل معنى مفيدًا، فحياه أولا: صباح الخير (قالها بالانجليزية) فأجابه بتمتمة لا تتبين فيها الحروف، فعاد وسأله: ما جنسيتك؟ وهنا أجاب الرجل فى شيء من الخشونة التى تُنبئ بشر: أنا يهودى، ومرة أخرى عاد صاحبنا ليسأل: إنى لا اسألك عن ديانتك، بل اسألك عن جنسيتك، فصرخ الرجل فى غيظ، وأجاب نعم، جنسيتى هى أنى يهودى، ومضى يستأنف مشيته على الرصيف رائحًا وغاديًا.
لم يستطع صاحبنا على طول ما فكر، وهو فى القطار الذاهب إلى القدس، ماذا عناه ذلك الرجل عندما جعل جنسيته ويهوديته مترادفتين؟! لكنه تجاهل حيرته لعل الأيام تكشف ما يفسر له الغامض، ووصل إلى القدس، وألقى بحقيبته فى أقرب فندق استطاع النزول فيه، وخرج مسرعًا ليجلس فى مقهى ازدحم بالناس، ولم تمض دقائق حتى جاءه شاب وسيم حيّاه تحية النهار، وسأله: أجئت إلينا زائرًا؟ فأجابه: نعم لتوى جئت آتيًا من مصر، قال: هل تأذن لى بالجلوس معك؟ فأجابه القادم المصرى، إن ذلك يجعل فرحتى فرحتين، وكان أول سؤال ألقاه الفلسطينى على أخيه المصرى هو: ما أخبار «القضية» فى مصر؟ فرد المصرى: أية قضية تعنى؟ فعاد الفلسطينى إلى السؤال وعلى وجهه علامات دهشة وتعجب: «القضية» يا أخى؟! إنها القضية العربية!! وعرف صاحبنا بالقضية، قضية العرب أهل فلسطين مع الأقلية اليهودية هناك التى يشد أزرها المندوب البريطانى.. وهنا فقط أدرك ما قصد إليه الرجل الذى التقاه فى محطة «اللد» حين قال إن جنسيته هى نفسها يهوديته!! وفى «حصاد السنين» يكتب متأثرًا حول أحوال الأمة العربية: «ربما لا يصدق أن القرارات الدولية المُختلف حولها مصدرها له دلالة ثقافية، فمثلا القرار 242 الذى قبله العرب وإسرائيل معًا حين سئل ذات مرة واضعه (لكارنجتون) كيف توصلت إلى هذا القرار؟ أجاب على الفور بأنه استدعى زعماء العرب وزعماء إسرائيل، فطلب العرب إعادة الأرض لأصحابها، وطلب الإسرائيليون الأمن والأمان، لكن المفاجأة بأن صدر القرار فى لغته الانجليزية التى لا تسمح بأن توضع أداة للتعريف قبل الكلمة المطلوبة (الأرض)، وبالتالى يكون معناها هذه الأرض أو أى أرض، فاستمرت الفجوة بين العرب وإسرائيل حتى يومنا هذا بدعوى إسرائيل بأن القرار غير ملزم وغير محدد!!.. وأيام الحرب العالمية الثانية كان زكى نجيب محمود فى انجلترا وقالت له ربة البيت الذى يسكن فيه: إن الموت يتربص بنا جميعًا فبماذا توصى إذا أصبت؟ فقال لها: وصيتى الوحيدة أن يدفن جثمانى فى أرض مصر.. قالت متعجبة: أليست الأرض كلها سواء بالنسبة إلى الموتى؟.. قال: لا تدركين علاقة المصرى بأرضه، ولو قلت هذا الكلام لمصرى لفهم ما أريد.. ليتكم تعلمون أن المصرى تملكه أرضه أكثر مما يملك هو الأرض..
وإذا ما كان الدكتور زكى نجيب محمود قد راجع نفسه فى مقتبل الشباب بتغيير شخصيته تغييرا كاملا من رجل سريع الانفعال مشتعل العاطفة حاد المشاعر إلى استخدام العقل قبل أى شيء آخر فإنه قد راجع نفسه أيضا ليتحول من الفكر العلمانى المادى الغربى إلى أصول الفكر الإسلامى، حيث تنقسم حياته الفكرية إلى ثلاث مراحل (فكرية وفلسفية وثقافية)، ففى المرحلة الأولى التى أخذت من عمره حوالى ثلاثين سنة وانتهت مع أوائل الستينيات تبنى فيها الإطار العلمانى التغريبى لدرجة أنه تمنى أكثر مما تمناه يومًا طه حسين فى أن نكتب من الشمال ونقرأ كما يقرأ الغرب، ونُفكر كما يفكرون، وهو ما ذكره فى كتابه «شروق من الغرب» وفى هذه المرحلة تأثر بفكر طه ولطفى السيد وسلامة موسى، إلا أنه بعدها استطاع التخلص من أحاديثه الثقافية، وبدأ يقول بإمكانية وجود ثقافات أخرى مع الغربية، وظهر ذلك فى كتابه «الشرق الفنان»، ومن بعدها جاءت مرحلة ازدواجية الثقافة بعد أن كان لا يؤمن سوى بالثقافة الغربية وحسب.. ومع النصف الأول من السبعينيات انفتح على التراث العربى والإسلامى.. وبتفرغه للعمل كأستاذ فى قسم الفلسفة بجامعة الكويت، وندوة عن «الثقافة المعاصرة» حضرها فى لاهور بباكستان، استطاع التفرغ لكتب التراث التى تأثر بها كثيرًا وبدأ يكتب فى الأهرام فى أواسط السبعينيات عن الأصالة والمعاصرة، ويلح على أن الدين لابد أن يكون مصدرًا أساسيًا فى تربية الضمير الإنسانى، وكتب مقالات بعنوان «إحياء الدين» و«من وحى الكعبة» وبدأ يقول إن المجتهدين فى مجالات العلوم عليهم أن يجتهدوا دون أن يخالفوا الشريعة.. وتنبرى حملات شرسة على د. زكى نجيب محمود من بعد كتابه «تجديد الفكر العربى» و«رؤية إسلامية» قادها د. فؤاد زكريا وغالى شكرى ونصر حامد أبوزيد متهمينه بالمراوغة والتراجع والهزيمة الفكرية الخ..
وهُنا يرد عليهم فى كتابه «أفكار ومواقف» ليقول: «مضيت أقلب أوراقى أقرأ سطرًا هنا وفقرة هناك، وصفحة كاملة حينا بعد حين.. لكننى هذه المرة أخذت طريقى مع الأيام متجهًا بها من ماض إلى حاضر، فإذا ببوادر القلق تأخذ فى الظهور، وإذا بالحيرة تزداد حدة وبالتساؤل يعلو صوتا ليقول: وماذا تكون صنعت يا أخانا إذا أنت اكتفيت بأن تسلك نفسك أوروبيًا مع الأوروبيين؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جعلت نفسك واحدًا يضاف إلى كذا مليون من أهل أوروبا؟ نعم، رأيت فى أوراقى شكوكا تتقد جمراتها بين الأسطر كلما اقتربت مع تلك الأوراق من يومى هذا، ووجدتنى اتجه إلى نفسى بلائمة كأنى أعاتبها فأقول: أتكونين يا نفسى فى أمسك على رأى، ثم تصبحين فى يومك على رأى آخر؟ ألم تريدى بالأمس ألا تختلط مصريتك بشيء من عروبة؟!! ولكننى وجدت تلك النفس المتشككة تسارع إلى الجواب بنفسها فتقول: وماذا فى أن ازداد تفكيرا فأتغير؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق.. لقد تمنيت لأمتى فيما سبق أن تكون قطعة من الغرب، لكننى اليوم أريد لها أن تكون أمتى هى أمتى».
ويضيف زكى نجيب فى فقرة أخرى: «إن تاريخنا الثقافى أشبه شيء فى صورته بالعمارة الإسلامية، حين يقام البناء على رقعة من الأرض معينة الحدود، حتى إذا ما صعد إلى الطابق الثانى، برز بجوانبه، ليجىء هذا الطابق الأعلى أوسع رقعة من الطابق الأدنى، وكذلك يحدث فى الطابق الثالث ليصبح أرحب، وهكذا فعلنا فى مراحلنا الثقافية، فنحن إذا انخرطنا فى الثقافة العربية، لم نمح جذورنا الماضية، بل بنينا فوقها طابقًا يرتكز على ذلك الماضى ثم يتسع..
لا، ليس المطلوب للعربى إذا أراد الترقى، ألا يكون عربيًا، بل أن يكون عربيًا جديدًا، المطلوب هو أن يظهر فينا «سندباد عصرى» ليستأنف سيره القديم بصورة جديدة، وقل ذلك فى الطب والهندسة والفلسفة وفى كل فرع من فروع الأدب والفن والعلم والصناعة وبذلك يكون زكى نجيب محمود هو من بدأ مبكرًا بالدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى أخذت أقلِّب أكداس الورق التى تراكمت عندى حتى ضقت بها، لكننى خرجت من هذا كله بأن رأيت القلم الذى شطح ذات يوم فى تطرفه نحو الغرب، قد عاد آخر الأمر إلى توبة يعتدل بها، فيكتب عن عروبة جديدة تكون هى الثقافة التى تصب جديدًا فى وعاء قديم، أو تصب قديمًا فى وعاء جديد»..
ويحدثنا الدكتور زكى نجيب محمود فى كتابه «من خزانة أوراقى» عن أهمية الروح، والصراع بين الشك واليقين، فيجرى حوارا بينه وبين إنسان اعتراه الشك وينصحه بأن يهاجر بروحه..
● قال: وماذا تريد بهجرة الروح؟
- قلت: لقد هاجر النبى الكريم بمعنى الرحلة من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة فى مكتبتك من رف إلى رف، ولقد أوذى النبى الكريم فى مكة فهاجر إلى المدينة فجاءه نصر الله والفتح، ورأى الناس يدخلون فى دين الله أفواجا، وها أنت ذا تؤذيك أباطيل العقل فى بعض الكتب فدعها إلى سواها لعلك بذلك تنتقل من ضلال العقل إلى إيمان القلب حيث السكينة والقرار، ولقد كانت هجرة النبى مولدًا جديدًا لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتب إلى كتب بعثًا جديدًا لروحك المعذبة الظمآنة.. إن من ابتل جسمه بالماء وهو فى البحيرة مغمور لابد له من الخروج إلى الشاطئ المُشمس إن أراد لنفسه الدفء والجفاف، أما أن يثب إلى البحر فقد ازداد بللا على بلل.. هاجر يا صديقى كما هاجر الرسول ولئن هاجر النبى فى عالم المادة فهاجر أنت فى عالم الروح..
● قال: ما هو طريق النجاة؟
- قلت: عليك بثلاثة أمور: أولها الصلاة، وثانيها الصلاة، وثالثها الصلاة.. عليك بالصلاة يا بنى فهى فترات أراد الله أن نتخلص من جزيئات الوجود لنتصل بالواحد القيوم خمس مرات كل يوم.. ألست ترى كيف يحاول الماثل بين يدى ربه أن يغلق حواسه فلا يبصر مما حوله شيئا ولا يسمع شيئا؟ ذلك لئلا تعطل حواسه الفكر عن الوصل المنشود..
و..كأنه يكتب الآن عن خوارج العصر.. عن فكر الدواعش.. عن الإرهاب والتعصب والتطرف.. عن غسيل المخ.. عن أسرى الفكرة الواحدة.. عن تشفير الآخر.. عن تنظيم القاعدة والإخوان والحوثيين وبوكو حرام. كلمات فى مقال كتبه الدكتور زكى نجيب محمود فى الثمانينيات نرى فيه خصوبة الفكر وأهمية ترجيح العقل دون المساس بالعقيدة التى تأمرنا بأن نوغل فى العلم ما وسعنا الإيغال: «صورة لا أنساها قط منذ رأيتها، كأنما هى محفورة فى الذاكرة بمسمار من لهب، أو كأنها الرموز الهيروغليفية حفرها الفنان القديم بإزميله على مسلة من حجر الجرانيت، وتلك هى صورة عبدالله بن خباب، ذلك الورع التقى الذى صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سمع إذ هو فى داره المتواضعة على الطريق ضجة أثارها نفر من الخوارج، فخرج من داره يستطلع الخبر وكتاب الله معلق حول عنقه، وامرأته الحبلى إلى جواره مخافة أن يصيبه السوء، فما أن ظهر على الطريق حتى فاجأته جماعة الخوارج، فدار بينهم هذا الحوار القصير:
الخوارج: إن هذا الذى فى عنقك ليأمرنا بقتلك.
ابن خباب: ما أحياه الله فأحيوه، وما أماته فأميتوه
الخوارج: ما تقول فى علىّ بعد التحكيم؟
ابن الخباب: إن عليّا أعلم بالله، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة.
الخوارج: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم.. ثم قربوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه، فذبحوه، ثم دعوا بامرأته الحبلى فبقروا عما فى بطنها.
تلك هى الصورة التى حفرت عندى فى الذاكرة حفرًا، لماذا؟ ربما كانت عِلة ذلك هى أن الخوارج كانوا أسرى الفكرة الواحدة، فإما كنت معهم فى فكرتهم تلك، وإما كان القتل جزاءك على أيديهم بغير تردد ولا تخاذل.. ضحايا الفكرة الواحدة كثيرون وهم على كثرتهم كالفصيلة الحيوانية المتجانسة يشتركون فى خصائص يمكن وصفها وضبطها وتقنينها والواحد منهم إذا انضم إلى سواه تحت لواء واحد، فإنه فى اللحظة نفسها يفقد استقلاله الشخصى، وتضيع منه حرية التفكير الفردى، فيسهل عندئذ أن يساق كما تساق قطعان الغنم، ومن أوضح ما يميز تلك الفصائل البشرية أنها لكى تبرر إهدارها لآدميتها توهم نفسها بأنها إنما قامت لتدافع عن «قضية» كبرى لها فى نفوسهم قداسة أو ما يشبه القداسة يفقدون من أجلها وجودهم الإنسانى كله، وإنهم ليرون فيها جوابًا على كل سؤال، وحلا لكل إشكال، وتفسيرًا لكل ما غمض، وإذا كان ذلك أمرها، فلماذا لا يقتلون من أجلها، ولماذا لا يسلكون مسالك العنف من أجلها، ولماذا لا يفرضون الطغيان فى سبيلها؟.. ومادمت قد بدأت حديثى بذكر الخوارج وعسفهم فى قتل من خالفوهم الرأى من المسلمين فلأختم الحديث بهم لنرى كيف سَهَلَّ عليهم الجمع بين النقائض بسبب انحرافهم إلى التطرف، فهؤلاء الرجال أنفسهم الذين قتلوا العابد الورع التقى عبدالله بن خباب لمخالفته إياهم فى وجهة النظر عن الإمام علىّ، ما كادوا يفرغون من قتله وقتل زوجته الحبلى معه، وإلقاء جسديهما فى الماء، حتى تلفتوا فإذا هناك نخلة يملكها مسيحى، وأرادوا شراء ثمارها، فقال لهم الرجل وكان قد شهد ما فعلوه بابن خباب إن ثمار نخلتى لكم بغير ثمن، فاستنكروا منه أن يظن بهم السوء فهم لا يأخذون شيئا من صاحبه بدون شراء، فقال لهم الرجل: «واعجباه! أتقتلون مثل عبدالله بن خباب، ولا تقبلون جنى نخلة إلا بثمن»!!.. إن عبيد الفكرة الواحدة يغلب عليهم أن يعيشوا فى عالم تخلقه لهم أوهامهم وشاغلهم ليس مع الناس على هذه الأرض، بل هناك فى طبقات الجو العليا حيث يقاتلون الظلال والأشباح.. وآه لو عادت بى الحياة العلمية إلى أول يوم بدأتها به، إذن لدخلت قاعة الدرس قائلا: موضوع حديثنا اليوم أيها الطلاب هو وجوب النظر إلى الرأى الآخر، وأولى خطوات السير هى أن نحرر أعناقنا من الفكرة الواحدة حتى لا تطغى، وأن نفك القضايا الكبرى إلى قضايا جزئية عملية صغرى، كما تفك الورقة ذات العشرين جنيها إلى فرادى وقروش لكى يتاح لنا أن ننزل بها إلى السوق فنشترى خبزًا لطعام الغداء..».

ماسبيرو زمان
قام التليفزيون المصرى عام 1992 بتسجيل 12ساعة كاملة مع الدكتور زكى نجيب محمود دخلت الأرشيف ولم تخرج للآن فلعل المانع خيرًا، خاصة أنه لم يمض عليها دهر طويل إذا ما قيست بتسجيلات من أوائل القرن الماضى تعرض مرارًا وتكرارًا فى «ماسبيرو زمان»..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.