مائة يوم تقريبا ويأتى «اليوم صفر» يوم اغلاق صنابير مياه فى جميع أنحاء كيب تاون - ثانى أكبر مدن جنوب إفريقيا لتصبح أول مدينة كبرى فى العالم تنفد منها المياه، وأول تجسيد حى للتحذيرات التى طالما أطلقها العلماء من عواقب ظاهرة الاحتباس الحرارى والتقلبات المناخية وكأنهم ينفخون فى «قربة مقطوعة». كما أن أزمة كيب تاون تعد أكبر دليل على أن العالم مقبل على نقص حاد فى المياه قد يؤدى ،اذا ما تفاقم الأمر وترك دون حلول جذرية، إلى أسوأ سيناريو وهو «الحروب المائية» أى الصراعات المسلحة حول مصادر المياه. خطر النقص الحاد فى المياه فى كيب تاون يأتى بعد أكثر من ثلاث سنوات متتالية من الجفاف نتيجة ندرة سقوط الأمطار الشتوية التى تعتمد عليها المدينة، وهو ما يعد ظاهرة استثنائية يؤكد أحد خبراء الأرصاد أنها لا تحدث سوى كل 628 عاما. وقد تسبب هذا الجفاف فى انخفاض خطير فى مستويات موارد السدود لتصل إلي 16 فى المائة، ويتوقع الخبراء وصول المدينة إلى أسوأ مرحلة يوم 4 يونيو المقبل أو «اليوم صفر» عندما تدنت مستويات المياه فى السدود مجتمعة إلى أقل من 13٫5 فى المائة. فى هذا اليوم المشئوم ستغلق سلطات المدينة جميع امدادات المياه، ما عدا الطارئة منها مثل المستشفيات، وسيتعين على المواطنين التوجه إلى مواقع توزيع المياه فى أنحاء المدينة والمنتظر أن يبلغ عددها 200 موقع للحصول على حصة محددة لكل شخص تقدر بحوالى 25 لترا فى اليوم (للشرب والطهى والغسيل والاستحمام) وذلك تحت إشراف حراس مسلحين لمنع اندلاع أعمال عنف! السيناريو الكارثى لما بعد اليوم صفر يشمل إلى جانب الطوابير الطويلة المرهقة للحصول على المياه واحتمال اندلاع شجارات واعمال عنف، انتشار الأوبئة التى تنجم عن عدم وجود المياه، وعدم القدرة على إطفاء الحرائق التى تشتعل بصورة اعتيادية فى الاحياء الفقيرة، وتزايد معدلات البطالة فى القطاع الزراعى، وانهيار قطاع السياحة. ولتفادى حلول اليوم صفر أو على الأقل تأجيل حلوله لأطول فترة ممكنة، اتخذت السلطات فى مدينة كيب تاون سلسلة من الاجراءات لخفض استهلاك المياه حيث طالبت المواطنين(4 ملايين) بألا تتجاوز حصة الفرد فى اليوم الواحد 50 لترا بدلا من 87 لترا فى السابق وإلا فسيتم تركيب اجهزة لترشيد الاستهلاك قسرا على صنابيرهم. وهنا يشير البعض إلى صعوبة تطبيق ذلك مع ارتفاع درجة الحرارة حيث إنه موسم الصيف فى جنوب إفريقيا لتصل إلى 30 درجة مئوية ومتوسط استخدام المياه للاستحمام لمدة 8 دقائق بالنسبة للفرد يتجاوز ال60 لترا! وتنتشر الآن دعابة بين المواطنين أن «الشعر المتسخ سيتحول إلى رمز للوطنية» وفى إطار الاجراءات ، حظرت السلطات ملء حمامات السباحة وغسيل السيارات ورى الحدائق الخاصة. كما قررت خفض حصص المياه لعدد من المزارع والمصانع. ويرجع الخبراء والمحللون تفاقم أزمة المياه فى كيب تاون إلى عدد من الأسباب بعضها يتعلق بتقلبات الطبيعة والآخر بسوء الادارة. التغييرات المناخية يقول بيتر جليك عالم المياه وعضو الأكاديمية الوطنية للعلوم فى الولاياتالمتحدة إن الفقر المائى الذى تعانى منه كيب تاون وعدد من المدن الأخرى فى العالم يعود إلى أن الكثير من المناطق حول العالم قد وصلت إلى ما يعرف ب «حد الذروة المائية» حيث تم استهلاك كافة موارد المياه المتاحة والمتجددة ولا تتوافر موارد جديدة تقليدية. كما يدين علماء بيئيون آخرون الممارسات البشرية الأنانية فى التسبب المباشر فى ظاهرة الاحتباس الحرارى التى ادت بدورها إلى تقلبات مناخية سريعة وغير متوقعة من جفاف وفيضانات أثرت بشكل مباشر على أنظمة المياه فى العالم. التضخم السكانى فرض النمو السكانى والاقتصادى المطرد ضغطا زائدا على موارد المياه المحدودة. كما أن كثيرا من المواطنين حول العالم لا يعترفون بترشيد استهلاك المياه . فشل إدارى وفساد وتنافس سياسي يرى بعض الخبراء أن السبب الرئيسى فى تفاقم أزمة المياه فى كيب تاون هو البيروقراطية وسوء التقدير والفشل فى صيانة البنية التحتية وهو ما تسبب فى إهدار كميات لا بأس بها من المياه . فقد تجاهلت السلطات التحذيرات المتكررة من خبراء المناخ والمهندسين المدنيين، والتى بدأت منذ عام 1990، من أن البنية التحتية للمياه فى المدينة والتى تعتمد على ستة سدود مائية فى أماكن متفرقة لن تكون قادرة على الايفاء بطلب السكان من المياه اذا ما تبدلت انماط هطول الأمطار الشتوية نتيجة التغييرات المناخية . فى حين يرجع البعض تفاقم الأزمة إلى التناحر بين حزب المعارضة «التحالف الديمقراطى» الذى يتولى ادارة كيب تاون ويسيطر على المجلس المحلى وحزب «المؤتمر الوطنى الأفريقى» الحاكم (أى الحكومة المركزية لجنوب افريقيا). وتجدر الإشارة هنا إلى أن حزب التحالف الديمقراطى المعارض ذو أغلبية من البيض، ورغم أنه يسوق نفسه على انه حزب ليبرالى اجتماعى ديمقراطى نزيه إلا أنه كثيرا ما يتهم بأنه يخدم أجندة الناخبين البيض فقط ويمارس سياسة «فصل عنصرى تجارى». وفيما يتعلق بملف المياه تتهم الحكومة المحلية فى كيب تاون الحزب الحاكم بالتهاون والاستهتار حيث لم تستجب لمطالبات سلطات المدينة بامدادها بالتمويل اللازم للتصدى للأزمة وهددت برفع دعوى قضائية ضد الحكومة المركزية. على الجهة الأخرى اتهمت نومفولا موكونيان وزيرة المياه فى جنوب افريقيا (والمنتمى للحزب الحاكم) الحكومة المحلية فى كيب تاون بممارسة «سياسة التخويف»وأن الحكومة المركزية قد اتخذت اجراءات فعلية وقامت بالتعاقد على محطات لتحلية المياه ووحدات لمعالجة المياه الجوفية ستصل للبلاد خلال شهور. هنا يشير بيوتر ولسكى، استاذ علوم المياه بجامعة كيب تاون فى تقرير لصحيفة التايمز البريطانية ، إلى أن المدينة ليس لديها رفاهة الانتظار لعدة أشهر حتى تصل محطات تحلية المياة، كما أن قدرات المحطات تعتبر محدودة اذا ما عرفنا ان استهلاك كيب تاون من المياه فى اليوم الواحد يصل إلى 580 مليون لتر (استهلاك منزلى مع استهلاك صناعى وتجارى محدود)، فى حين أن محطة التحلية تنتج خمسة ملايين لتر فقط يوميا. ولكن هذا لا يعنى الاستسلام أو الاستغناء عن الاستفادة من مصادر غير تقليدية للمياه مثل محطات التحلية، ووحدات معالجة المياه الجوفية وغيرها، ولكن الأهم ترشيد استهلاك المياه من حيث تطوير فاعلية استخدام المياه وتغيير أنماط السلوك بحيث يتم الاعتماد على وسائل الرى الحديثة الموفرة للمياه وغسالات الملابس والاطباق الموفرة ومعالجة تسريبات المياه والبحث عن بديل للحدائق الخاصة المستهلكة للمياه وكذلك حمامات السباحة. توفير المياه خلال الاستحمام وغسل الاسنان واستخدام صندوق الطرد «السيفون». شبح نفاد المياه أمر اعتبره الكثيرون شبه مستحيل الحدوث على كوكب الأرض «الأزرق« الذى تشكل المياه 70 فى المائة منه، ولكن ها هو يهدد مدنا أخرى فى دول كثيرة من بينها البرازيل والهند وكمبوديا وايران وسنغافورة والولاياتالمتحدة ومدغشقر والصين وبعض الدول العربية. ومن المتوقع أن يعانى 3٫5 مليار شخص حول العالم من نقص المياه بحلول 2025.