الحاجة مهما بلغت شدتها والإغراء مهما بلغت جاذبيته.. هل يمكن أن يدفعا إنسانا ما للتخلى عن مبادئه والتورط فى عمل غير مشروع وربما حتى فى قتل إنسان آخر؟! سؤال اعتقد أنه شكّل جوهر فيلم «الراكب» للنجم المخضرم ليام نيسون فى رابع تعاون له مع المخرج الإسبانى جاومى كولى سييرا. الفيلم الذى يصنف ضمن ما يعرف بالدراما البوليسية التى تجمع بين الحركة والبعد الاجتماعى فى آن واحد، كما يمكن اعتباره مقاربة سينمائية جيدة من فيلم نيسون وسييرا «بلا توقف» فى عام 2011 مع اختلاف منطقة العمليات حيث كانت على متن طائرة فى الفيلم القديم وانتقلت إلى قطار فى الفيلم الحالى. ............................. كذلك لا يمكن لمشاهد الفيلم تجاوز الربط بين حبكته الدرامية والحبكة البوليسية لواحدة من أشهر قصص المؤلفة الإنجليزية الشهيرة أجاثا كريستى «جريمة فى قطار الشرق السريع» التى تمت تجسيدها فى عدة أفلام آخرها قبل أسابيع قليلة حينما تحدث جريمة قتل على متن القطار ويطلب من المحقق «بوارو» اكتشاف القاتل. يعتمد الفيلم تقريبا على بطل واحد يستحوذ على أكثر من 80 بالمائة من حجم العمل هو ليام نيسون، بينما تؤدى كل الشخصيات المشاركة أدوارا مساعدة وربما لهذا لم يشارك فى بطولته نجوم معروفون، لكن ذلك لا يعنى إنتقادا بأى شكل لنيسون الذى نجح بخبرته السينمائية الطويلة فى شغل المساحة المعهودة له بكفاءة عالية، وتقديم أداء احترافى جمع فيه بين تعبيرات إنسانية متناقضة مثل رب الأسرة المثقل بالأعباء، والشرطى النابه والرجل الفقير صاحب الضمير الحى، والصديق الذى يصدم فى صديقه، ولم يحرمنا أيضا من بعض مشاهد الحركة العنيفة رغم كبر سنه ليقدم الدليل على أنه يسير على نفس طريق ممثلين عظماء سبقوه فى تقديم مشاهد الحركة فى سن كبير مثل هاريسون فورد وآل باتشينو وغيرهما. تدور أحداث الفيلم حول مايكل «ليام نيسون» الشرطى السابق الذى يعمل موظفا بشركة للتأمين، مرتبط جدا بأسرته التى تتكون من زوجة وابن مراهق يتأهب للالتحاق بالجامعة. يسكن مايكل فى منطقة بعيدة عن عمله فى وسط المدينة ما يجعله راكبا منتظما للقطار ومن هنا جاء اسم الفيلم «the commuter» التى تعنى الراكب المنتظم، ومن خلال انتظامه فى استقلال القطار يوميا لمدة 10 أعوام نشأت بينه وبين غيره من الركاب المنتظمين على نفس القطار علاقة إنسانية أقل قليلا من أن تكون صداقة وأكثر قليلا من كونها علاقة عابرة بين ركاب قطار. المشاهد الأولى للفيلم تستعرض حياة مايكل العائلية وتوضح حجم ارتباطه بأسرته الصغيرة، ثم تستعرض رحلته اليومية ذهابا إلى العمل حيث توصله زوجته بسيارة الأسرة إلى محطة القطار فى منطقته البعيدة حتى يصل إلى الشركة ليجد فى انتظاره مفاجأة غير سارة وهى إنهاء خدماته دون مقدمات أو أسباب. لا يجرؤ مايكل على الاتصال بزوجته لإخبارها بما حدث خوفا عليها من الصدمة خاصة أنهما كانا يعتمدان على دخله لتأمين مصروفات التحاق ابنهما بالجامعة، ويظهر فى أحد المشاهد وهو يبوح بمكنونات نفسه مع صديق له يدعى ميرفى بينما كان يجلسان فى مقهى بوسط المدينة. فى طريق عودته نرى راكبة غير مألوفة بالنسبة له يظن أنها تطارده عاطفيا لكنها تفاجئه بطلب غريب عليه وهى اكتشاف راكب غير معتاد فى نفس القطار ونفس الرحلة يحمل اسم برين مقابل أن يحصل على 100 ألف دولار منها 25 ألفا فورية سيجدها مخبأة فى حمام العربة التى يجلسان فيها وال 75 ألفا الباقية سيحصل عليها بعد أن يجد المدعو برين. قبل أن يستفيق مايكل من الحالة التى اختلط فيها الاستغراب بالاعتقاد أن ما تفعله السيدة دعابة سخيفة مثل دعابات «الكاميرا الخفية»، تغادر السيدة القطار فى المحطة التالية، وبدافع الفضول وربما الحاجة يذهب إلى الحمام ليعثر على مظروف مغلق به 25 ألف دولار كما أخبرته السيدة تماما وهنا تبدأ الورطة. فقد اعتبرت السيدة والعصابة التى تقف خلفها أن ما فعله بمثابة عقد تراض وقبول بالمهمة لا يمكنه الرجوع عنها فيما بعد مهما حدث وأن عليه إكمال اللعبة غير النظيفة حتى النهاية وفق شروطهم هم، وبالتالى عندما يحاول النزول فى المحطة التالية يتلقى رسالة من طفل متسول يصعد القطار فجأة ويسلمه مظروفا فيه رسالة يقولون فيها أنهم يراقبونه ويعرفون ماذا يفعل داخل القطار، وفيه أيضا خاتم زوجته كدليل على إنهم يستطيعون إيذاءها . المهم يبدأ مايكل فى البحث عن الشخص المطلوب بين الركاب غير المنتظمين فى نفس الخط دون أن يعرف أى تفاصيل عنه سوى أنه يحمل حقيبة وحجز تذكرة حتى محطة «كولد سبرينجز»، ولا عما يتوجب عليه فعله بعد أن يجد هذا الراكب سوى أن يضع جهاز تتبع صغير على الحقيبة. تبدأ رحلة البحث التى نكتشف خلالها أن مايكل عمل سابقا فى الشرطة وهو ما يتضح فى طريقته «لفلترة» الركاب وصولا إلى حصر البحث فى 4 أشخاص فقط، ويبدأ فى التحقق منهم، وخلال ذلك يصطدم براكب فظ يظن أنه المنشود ويتعاركان معا ثم يختفى الراكب الغريب ليجده مايكل لاحقا مقتولا ومدفونا فى صندوق تحت أرضية القطار ويكتشف أنه كان عميلا فيدراليا يسعى لمعرفة الراكب «برين» وحمايته. يستعير مايكل هاتف راكب منتظم آخر بعدما سرق هاتفه وهو يتأهب لركوب القطار، بصديقه ميرفى الذى نعرف أنه يعمل فى الشرطة وكان زميلا لمايكل فى السابق ليخبره بما حدث فيبلغه الأخير بأنه يعتقد أن برين هذا مفتاح لفك لغز جريمة مقتل أو انتحار وقعت قبل أيام لشاهد مهم فى قضية كبيرة. فى ثانى محاولاته للخروج من الورطة التى وضع نفسه فيها يكتب مايكل رسالة على ورقة من الجريدة التى يقرأها أحد الركاب المنتظمين مثله يطلب منه فيها الاتصال بالشرطة وإبلاغهم أنه فى أزمة، وعندما يغادر الرجل القطار فى محطته يتلقى مايكل اتصالا من السيدة تقول فيه إنه خالف الاتفاق عندما استغاث بصديقه وإنه مسئول عما سيجرى له، فى نفس الوقت الذى تعرض فيه الكاميرا مايكل وهو يشاهد زميله الراكب من خلف نافذة القطار وأحدهم يدفعه تحت عجلات حافلة نقل عام ليلقى حتفه. بعد عملية بحث استغرقت مشاهد طويلة فقد خلالها المظروف الذى يحمل المال وتعرف على القاتل المأجور الذى كان سيقوم بالتخلص من برين، ويتعارك معه حتى يصرعه، يتوصل مايكل إلى أن برين ليس رجلا وإنما فتاة تعترف له بأنها تحمل فى حقيبتها «فلاشة كمبيوتر» تكشف حقيقة الجريمة التى وقعت قبل أيام والتى كان الضحية فيها خطيبها الذى ألقى به القتلة من نافذة دور مرتفع وكان أحدهم من الشرطة. يتلقى مايكل اتصالا من السيدة تأمره بقتل الفتاة فورا والحصول على ما تبقى من مكافأته لكنه يرفض ذلك بإصرار فى لحظة استيقاظ ضميره الإنسانى ومواجهته للإغراءات بل وحتى التهديدات حيث أبلغته السيدة أن عليه أن يختار بين حياة برين وحياة زوجته التى اختطفوها كما قالت لكنه يصر على الرفض. تلجأ العصابة للخطة البديلة وهى قتل من على القطار عبر تعطيل الفرامل وبالتالى يظل القطار مندفعا فى طريقه حتى يخرج عن القضبان لكن دون ان تقع خسائر فى الأرواح. المشهد الرئيسى أو «الماستر سين» للفيلم حين يختار قائد الشرطة التى تحيط بالقطار ويعتبر أن مايكل إرهابى اختطف ركابه، يختار قائد الشرطة ميرفى للصعود للقطار والتفاوض مع مايكل لإطلاق سراح الركاب، وخلال الحوار ينطق ميرفى جملة كان قد قالها قاتل الشاهد فى الجريمة التى حدثت قبل أيام كما عرف مايكل من برين، ما يجعله يدرك أن ميرفى ليس شريفا. تحدث مواجهة بين الاثنين يدرك مايكل خلالها أن كل ما حدث كان من ترتيب ميرفى الذى يلومه على غبائه الذى أضاع عليه مائة ألف دولار هو فى أشد الحاجة لها، ويتعاركان وعندما يقترب ميرفى من الإجهاز على مايكل يقوم أحد قناصة الشرطة بقنصه ظنا منه أنه الإرهابى. يعرف قائد الشرطة حقيقة ما حدث ومن هو الشرطى الفاسد فيعرض على مايكل العودة للعمل معهم مجددا فى الشرطة، ثم يجد مايكل أسرته فى انتظاره فى نهاية سعيدة على طريقة الأفلام العربية القديمة. المخرج جاومى سييرا والمؤلفان بايرون ويلينجر وفيليب دو بلاسى قدموا اجتهادا جيدا على الشاشة، تجلى فى بعض التفاصيل التى قد تقع من مخرجين آخرين مثل قرار مايكل بتعطيل تكييف كل عربات القطار ما عدا العربة الأخيرة ليتسنى له جمع الركاب فيها والتحقق منهم لمعرفة الراكب المطلوب كشفه. أيضا لقطة فقدان مايكل مبلغ ال 25 ألف دولار عندما طارت من المظروف حينما كان يحاول فصل العربة الأخيرة عن القطار لإنقاذ حياة الركاب بعد أن قامت العصابة بتعطيل الفرامل، وهو مشهد قدم فيه المخرج دلالة رمزية ملهمة لأن الأموال التى تدفع البعض للقتل وارتكاب الجرائم من أجلها يمكن أن تطير فى لحظة غير محسوبة. عدا القصة المحبوكة والإخراج المنتبه للتفاصيل والتمثيل المعبر لم يتضمن الفيلم ما يمكن الوقوف عنده كثيرا سواء فى الموسيقى التصويرية التى لم أشعر بها تقريبا ولم تؤد دورا كان يجد ربها أداءه فى فيلم بوليسى يتضمن العديد من المواقف المفاجئة والمثيرة التى كان يمكن للموسيقى الجيدة فيها أن تغنى عن الحوار. عموما نال الفيلم استقبالا معقولا من الجمهور والنقاد جعله فى مأمن من الهجوم النقدى العنيف وفى نفس الوقت لم يحظ بترحيب ملفت، ما يتناسب تقريبا مع كل أفلام المخرج السابقة التى تكشف وسطيته، فهو ليس من المخرجين الذين يعتمدون ميزانيات مبالغ فيها مثلما إن أفلامه لا تحقق إيرادات أسطورية بدورها لكن منتجيها على الأقل يربحون مثلما حدث فى فيلم «الراكب» الذى حقق حتى الرابع من فبراير حوالى 82 مليون دولار مقابل ميزانية بلغت 30 مليونا، وهو فى اعتقادى رقما جيدا لمخرج لا يراهن كثيرا على شباك التذاكر بقدر رهانه على تقديم أفلام معقدة تبرز موهبته مثل «بيت الشمع» الذى قدمه عام 2005 و»يتيم» عام 2009 و «غير معروف» عام 2011 و «بلا توقف» عام 2014.