لم أكن أتصور في يوم من الأيام, أن أعود مكرما لجامعتي العريقة, جامعة القاهرة, التي وضعت اسمها كرغبة أولي قبل أية جامعة أخري, ولم يخطر ببالي بعد كل هذه السنوات أن تتذكرني كليتي الجميلة. عدت إلي آداب القاهرة بدعوة كريمة من عميدها الأستاذ الدكتور زين العابدين محمود أبو خضرة, لتكريمي في إطار احتفال الكلية بتخريج دفعتها رقم81, مع عدد من خريجيها القدامي والاحتفاء بالمتفوقين من أبنائها في شتي المجالات والمواقع التي شغلوها. سعدت كثيرا بتكريم أستاذنا الكبير د.جابر عصفور, أستاذ النقد الأدبي, ود.حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعروف, ود.محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ ود.يوسف فايد أستاذ الجغرافيا ود.أمينة رشيد أستاذ اللغة الفرنسية, ود.أحمد عتمان أستاذ الحضارة الهيلينية ود.علية خطاب أستاذ اللغة الألمانية, ود.عبد الفتاح عوض أستاذ اللغة الإسبانية ود. أوفيليا فايز رياض أستاذ الأدب المقارن ود. علية محمود عياد أستاذ اللغة الألمانية, وكانت سعادتي أكثر بتكريم أبناء الكلية, وفي مقدمتهم د. عبد المنعم عمارة الوزير السابق, ود. سامح مهران رئيس أكاديمية الفنون, والأديب الكبير بهاء طاهر والزميل الإعلامي محمود سعد, ولهذا قلت في كلمتي القصيرة عقب إهدائي درع الكلية مع وردة حمراء رقيقة, إن البعض كان يقول إن خريجي كلية الحقوق هم وزراء المستقبل, وأن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هي معمل السفراء, وأنا أقول إن خريجي كلية الآداب هم المبدعون لأنهم يستطيعون صناعة الحياة, وقلت إن قاعة الاحتفالات الكبري لجامعة القاهرة شهدت أحداثا عظيمة لطلاب أحبوا وطنهم, ولهذا أهدي هذه الوردة الحمراء لكل خريجي كلية الآداب منذ نشأتها وحتي الآن وخصوصا لجيلي- جيل السبعينيات- من طلبة كلية الآداب وطلاب جامعة القاهرة. عاد بي شريط الذكريات منذ التحاقي بكلية الآداب وحتي تخرجي في قسم التاريخ عام1977, ومازلت أذكر كلمات أستاذي ومعلمي وصديقي فيما بعد المؤرخ الكبير الراحل د.محمد أنيس وأنا أسحب أوراقي من كلية التجارة وأرفض انتظار اجتماع مجلس كلية الإعلام, هل تحب التاريخ وقراءته؟ فأجبته: إنه عشقي, فقال لي: إن التاريخ هو المدخل الحقيقي لفهم السياسة وهو الذي يصنع المستقبل, كان د.أنيس رئيسا لقسم التاريخ, وأستاذا لتاريخ مصر الحديث والمعاصر, وبالفعل كان التاريخ بالنسبة لي هو مفتاح فهم أصول الصراعات التاريخية والحدودية والعرقية, وأسباب قيام الإمبراطوريات والحضارات بكل مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية. ولطبيعة الدراسة في كلية الآداب وتنوعها واهتمامها بالعلوم الاجتماعية والإنسانية, يتمتع خريجوها بتنوع ثقافي فريد, وبقدرة علي البحث والمعرفة وتنوع الرؤي والانفتاح الفكري والعقلي, ويعود تاريخ إنشاء الكلية إلي عام1908 حين تأسست الجامعة الأهلية إلي أن صدر مرسوم إنشاء الجامعة المصرية عام1925, والتي تكونت من4 كليات فقط هي الآداب والعلوم والطب والحقوق. وعلي مدي تاريخها الطويل قدمت آداب القاهرة بكل تخصصاتها قمما شامخة وأعلاما بارزين في الأدب والفكر والإعلام والفلسفة والاجتماع واللغات والسينما والمسرح وجميع مجالات الحياة, ولعلي أذكر هنا بعضا منهم علي سبيل المثال طه حسين ونجيب محفوظ وسليمان حزين وجمال حمدان وزكي نجيب محمود وشفيق غربال وعبد الوهاب عزام والبابا شنودة الثالث ونعمات أحمد فؤاد وأحمد أمين وشوقي ضيف ومحمد أنيس وصبحي عبدالحكيم وحسين نصار وسمير سرحان وعبد العظيم حمودة ومصطفي سويف ومحمد الجوهري وعشرات الأسماء التي ساهمت الكلية- بدراساتها المتنوعة- في تشكيل وعيهم وثقافاتهم جعلتهم في مقدمة المشاركين في الحياة العامة. هذه هي كلية الآداب, التي أسهمت بشكل كبير في مسيرة الحياة الأكاديمية للجامعة المصرية وأسست لمنهج حديث في التعليم الذي يعتمد علي حرية البحث العلمي واستقلاله وحريته وأثرت الحياة الثقافية والفكرية والسياسية في مصر والعالم العربي من خلال التأليف والترجمة والنشر وحافظت علي القيم العلمية والبحثية في التعليم الجامعي وقدمت نماذج ساطعة وخريجين يؤمنون بأهمية التفكير العلمي وإعمال العقل. في طابور العرض الذي ارتدي فيه المكرمون الروب الجامعي والذي بدأ من أمام كلية الآداب ليدور حول الميدان الذي يقع أمام قاعة الاجتماعات, تذكرت حواراتي مع أساتذتي حول مفهوم التاريخ, ومن يصنعه, الفرد أم الشعوب؟, وغيرها من النقاشات السياسية والفكرية, التي لم تكن تغضب أحدا, بل تزيدنا فهما وإدراكا لأهمية إعادة قراءة التاريخ وكتابته, تذكرت د.محمد أنيس ود.سيد الناصري ود.جمال الدين المسدي, ود.محمود إسماعيل ود. سيد حراز, ود.حسنين ربيع ود.جمال مختار ود.حسن محمود. وعادت بي الذاكرة إلي أسرتنا التي شكلناها والتي تحتاج لتسجيل تاريخي حقيقي ينصف دورها وطلابها وهي' أسرة مصر' وروادها د.عبد المنعم تليمة, ود.فؤاد زكريا وعادت بي الذاكرة أيضا إلي جماعة' التاريخ المصري', وأعضائها عماد أبوغازي وإسماعيل شطا, وأحمد سيد حسن ورائدها د.محمد أنيس ثم د.سيد عشماوي وتذكرت كيف كان هذا الميدان الواقع أمام كليتنا هو مكان إقامة المعارض التي تعبر عن كفاح الشعوب ونصرة شعبي فلسطين وفيتنام, وكيف شهد مدرج78 في آداب القاهرة والمدرج الرئيسي لقسم التاريخ نشاطنا الطلابي وندواتنا السياسية والأدبية وعروضنا السينمائية, وشعاراتنا المطالبة بالديمقراطية, واستقلال الجامعة وتحرير فلسطين, توقف شريط الذكريات وسألت د.زين العابدين: أين قاعة اجتماعات مجلس الكلية الآن؟! فضحك وفهم مغزي سؤالي, فقد أنهيت الليسانس في6 مواد ممتحنا في لجنة خاصة كانت القاعة مقرا لأدائي للامتحان في السنة الرابعة ترافقني وتحيط بي قوة حراسة مكلفة بنقلي يوميا من سجن الاستئناف إلي كليتي, وتصادف أن يصدر قرار بالإفراج عني لعدم كفاية الأدلة لأكمل امتحان المواد الأخري في السرادق الضخم مع زملائي دفعة عام.1977 آداب القاهرة جزء عزيز من العمر, والتكوين السياسي والثقافي الاجتماعي لي ولأجيال آمنت بالعلم والعقل وحق الحياة والمشاركة فيها, وهي كلية صنعت عقولا تتفهم طبيعة الدنيا, وشخصيات تتكيف مع الحياة وتصنعها. ولا أعرف بعد هذه السنوات هل لا تزال كلية الآداب هي الكلية التي أعرفها, أم أنها بعد33 عاما قد تغيرت, لهذا ربما يحتاج الأمر لمقال آخر. المزيد من مقالات مجدي الدقاق