زمن الرواية مقولة زائعة أطلقها جابر عصفور فى وصفه للمشاهد السردية المصرية والعربية، تعبيرًا عن سيادة هذا الجنس الأدبى على غيره من الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة والشعر والمسرح من حيث كم الإنتاج الذى ينشر سنويًا، واستقطابه لاهتمامات الجماعات القرائية العربية على تعدد مستوياتها ومكوناتها-، ناهيك عن عديد النقاد المتخصصين أو بعض من ذوى المعرفة والوعى النقدى والذائقة الأدبية الرفيعة. المشهد الراهن يشير إلى أن هذه الظاهرة فى عقب الانتفاضات الجماهيرية والحراك الشعبى فى بعض المجتمعات العربية، أدت إلى سيطرة الكتابات الروائية والسردية على الإنتاج الثقافى عمومًا، فى غالب معارض الكتب العربية، بل وفى المكتبات ودور النشر الكبرى، ومن ثم أصبحت الروايات هى مركز اهتمام التظاهرات الثقافية، على نحو يدفع بعضهم إلى القلق من الظاهرة. إن إمعان النظر فى هذا التغير فى قائمة اهتمامات الجماعات القرائية العربية يعود إلى الأسباب التالية: 1- تعثر عمليات التغير والانتقال السياسى عقب الانتفاضات الجماهيرية المجهضة، وبروز المشكلات الاقتصادية المتفجرة واختلالاتها الهيكلية، وانعكاساتها الاجتماعية فى انتشار معدلات البطالة، وتزايد نسب التضخم، وارتفاع نسب المطرودين إلى ما وراء خط الفقر، أو حوله، على نحو أدى إلى تزايد الأمراض الاجتماعية، وعلى رأسها معدلات الجريمة ... إلخ! من ناحية أخرى انهيار الدولة فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، ومعها العنف والإرهاب وأشكال التطرف العنيف واتساع موجات الهجرة القسرية الداخلية من مناطق الحروب الأهلية، والإرهاب إلى مناطق أخرى حول المدن الكبرى ... أو الهجرة إلى دول عربية مجاورة أو إلى دول الجوار الجغرافى العربي، - تركيا وإيران- أو إلى دول أوروبية كألمانيا وفرنسا ... إلخ. هذا الزلزال من الحروب الأهلية والعنف أدى إلى حالة من الأنوميا السياسية، والاغتراب عن السياسة على الرغم من أن المثقف والقارئ فى قلب دوائر السياسة بالوعى والإدراك والرؤية المباشرة. من هنا شاعت حالة من اللامبالاة بالسياسة ومجرياتها وفاعليها ناتجة عن الغموض وعدم اليقين والاضطراب والسيولة، وغياب الأمل فى ظل قتامة الأوضاع على نحو أدى إلى فتور الاهتمام بالكتابات السياسية، والتركيز على وسائل الاتصال الاجتماعى الرقمية من ناحية أخرى غياب الفلسفة وكتاباتها فى التعليم والثقافات العربية إلا قليلاً جدًا. من هنا كان اللجوء إلى الرواية وفضاءاتها التخيلية، واستقطابها أعدادا كبيرة من القراء والناشرين وبعض نقاد الأدب. من ناحية أخرى تراجع قراء الشعر كديوان العرب التاريخى الرئيس إلى الوراء. ثمة أيضًا غياب لحركة مسرحية فاعلة كتابة وإنتاجًا وتمثيلاً وإخراجًا وعرضًا فى مصر والعالم العربى على نحو بات يشكل أحد مواطن الضعف فى بنيات الحياة الثقافية وعلامة على عدم اهتمام واضعى السياسات الثقافية العربية بأهمية المسرح البارزة فى ثقافات الشعوب والمجتمعات فى عالمنا. 2- نظام الجوائز العربية السخية التى أصبحت أداة بعض الأنظمة وبعض كبار الأثرياء فى إقليم النفط وخارجه، فى بناء مكانة وشهرة وزيوع، وجذب اهتمامات المثقفين العرب وتحييدهم إزاء هذه الدول. هذا النمط الناعم من الترويض، على سلبيته وقيمة الجوائز المالية الضخمة أدت إلى جذب اهتمامات الأدباء العرب والمصريين من جميع المبدعين فى الأجناس الأدبية المختلفة- إلى الترحال السردى من القصة القصيرة والشعر والمسرح إلى عالم الرواية على نحو غير مسبوق، ومن ثم نقل اهتمامات المبدعين على قلتهم- إلى السرد الروائي. من ناحية أخرى أدت الجوائز السنوية إلى ظواهر سلبية تتمثل فيما يلي: أ- تركيز أعداد ضخمة من كُتاب الرواية وبعضهم إن لم نقل غالبهم ضعيف الموهبة والخبرة والخيال واللغة ... إلخ- على الكتابة الدورية والسنوية لأعمال الهدف من ورائها الدخول إلى حلبة التنافس فى هذه الجوائز، بقطع النظر عن ضعف أو غياب الإعداد الجيد ونوعية العمل الروائي، والرؤى واللغة المغايرة التى يحملها وعلاقاتها، ومن ثم أصبح غالب الأعمال المقدمة مكتوبا أساسًا للترشح للجوائز، وليس لأسباب فنية محضة رائدها التجديد والخبرة والتفرد السردي! ب- الجوائز السخية أصبحت حافزًا للكتابة الروائية لأنها تسهم فى إحداث نقلة اجتماعية نسبية فى حياة بعض من يحصلون على هذه الجوائز. 3- تشكيل لجان الجوائز بات يداخلها بعض الغرض والأهواء الشللية العابرة للدول العربية، وبعض من النزوع القطرى بما يحمله من انحيازات متعددة بعضها مذهبى وطائفي! تسيطر على بعضهم فى اختياراته. 4- ميل بعض مؤسسى هذه الجوائز ومموليها إلى الانحياز إلى بعض بلدان المغرب العربى وبعض إنتاج هؤلاء بالغ التميز- لتهميش بعض الإنتاج فى المشرق العربي، ومصر. الأخطر عدم الاهتمام بالإبداع السردى فى اليمن والسودان والصومال وليبيا وموريتانيا. لا شك أن بعض السياسة تداخل هذه الجوائز واختياراتها وتؤثر على حيدة ونزاهة بعض الاختيارات! لا شك أن جوائز سخية، وسياسات ثقافية وطنية غير كفء وتفتقر إلى الفعالية، والركائز السوسيو-ثقافية الداخلية لممولى هذه الجوائز، تجعلها مع مرور الوقت ذات تأثيرات سلبية على تطور السرد الروائي، والثقافات العربية فى واقعها المأزوم والمتمدد والمحتقن والمضطرب. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح