اعتمد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أضخم ميزانية عسكرية فى تاريخ الولاياتالمتحدة، بلغت 700 مليار دولار لعام 2018، وتزيد بنحو 100 مليار دولار عن إجمالى ميزانيات الدول التسع التالية لها فى الإنفاق العسكري، وهى الصين وبريطانيا والهند وروسيا والسعودية وفرنساواليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية. والسؤال طالما أن الميزانية العسكرية الأمريكية بهذه الضخامة، وتعانى أمريكا عجزا حادا فى الميزان التجارى يفوق 600 مليار دولار سنويا، وديونا تجاوزت 20 تريليون دولار، فلماذا تزيد من أعبائها، وتخفض الإنفاق على خدمات أخرى يحتاجها المواطن الأمريكي، طالما أنها لا تحتاج إلى المزيد من القوة؟ الإجابة تبدو صعبة، خاصة عندما نجد أن ما فعلته الولاياتالمتحدة بهذه القوة المفرطة محدود للغاية، فقد فشلت فى جميع الحروب والأزمات المسلحة التى خاضتها، سواء فى أفغانستان أو العراق وأخيرا سوريا، ولم تفعل إلا القليل فى أزمات كوريا الشمالية واليمن وليبيا، بل إن دولا لا تظهر على خريطة الإنفاق العسكرى مثل إيران كان لها تأثير يفوق الولاياتالمتحدة فى أزمات سورياوالعراق، وكذلك كوريا الشمالية فى جنوب شرق آسيا، فالقوات الأمريكية منتشرة فى كل أرجاء العالم، لكنها ليست الأقوى على هذه المساحة الواسعة، لأن روسيا أقوى منها فى شرق أوروبا، وكذلك الصين أقوى فى شرق آسيا. إن القوات الأمريكية المبعثرة فى كل الأرجاء تظهر عليها علامات السمنة المفرطة، ضخمة دون فعالية وتأثير، بل تحولت الكثير من القواعد العسكرية الأمريكية إلى عبء بالمفهوم العسكري، وهذا ظهر واضحا خلال أزمتيها مع كل من كوريا الشماليةوإيران، فقد كانت تخشى حدوث مواجهة عسكرية تتعرض فيها قواعدها إلى هجمات صاروخية خطيرة، سواء فى منطقة الخليج من إيران، أو فى اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين من كوريا الشمالية. ليست الموازنات العسكرية الضخمة وحدها هو ما يضمن الفوز فى الحرب، هذا ما علمته فيتنام للعالم، فبعد أن استسلمت الجيوش الفرنسية فى فيتنام عام 1954 عقب معركة ديان بيان فو الشهيرة، قال الزعيم الفيتنامى هوشى منه ساخرا: لم نخسر فى الحرب أى طائرة أو دبابة أو سفينة حربية، لأننا لا نملك طائرات أو دبابات أو سفنا، أما الجنرال جياب القائد العسكرى الأسطوري، الذى قاد القوات الفيتنامية للنصر على فرنسا ومن بعدها الولاياتالمتحدة فقال: لقد انتصرنا بفضل روح وإرادة الشعب الفيتنامى الذى حمل السلاح زودا عن كرامته وحريته، ولم تفهم أمريكا أو فرنسا ثقافة وروح هذا الشعب. لقد انسحبت الولاياتالمتحدة من أفغانستانوالعراق تحت ضربات حرب العصابات التى كانت فيتنام أبرز ساحاتها فى خمسينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، وكانت ملهمة لحركات التحرر فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، ومازالت بصماتها واضحة حتى الآن فى الكثير من الحروب، أبرزها لبنان وغزة، وخشيت أمريكا من خوض حرب برية فى سوريا حتى لا تتعرض لانتكاسة مماثلة لقواتها فى العراق. لقد كشفت الحرب السورية عن ثغرات خطيرة فى القوة العسكرية الأمريكية، فلا هى تفوقت على السلاح التقليدى الروسى سواء فى الطائرات أوالصواريخ أوالحرب الإلكترونية لتحسم المعارك من الجو، ولا هى قادرة على الفوز فى الحرب غير النظامية، التى تطورت أسلحتها وأدواتها وتكتيكاتها، ولهذا تجنب كل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل خوض صدامات مباشرة، واكتفت بمحاولات التأثير عن بعد فى مسارات المعارك دون أن تحقق مكاسب ملموسة، وتخشى الولاياتالمتحدة من تكرار هذا السيناريو فى ساحات أخري، لهذا توجب عليها إعادة النظر فى منظومتها العسكرية المترهلة، وها هى تسعى للتفاوض مع كوريا الشمالية لتجنب أى صدام، بينما تعتمد فى ضرب إيران على إثارة الصراع مع جيرانها العرب وربما الأتراك دون أن تتحمل مشاق وخسائر الحرب. لا يمكن تجاهل مدى حاجة ترامب إلى كسب ود البنتاجون، وإرضاء كبار الجنرالات برفع الميزانية العسكرية والرواتب، لكن الأهم هو أن الولاياتالمتحدة فى حاجة إلى انتصار عسكرى كبير لتحافظ على هيبتها، وتبث الخوف بين خصومها، وطمأنة إسرائيل على مستقبلها الذى يبدو محفوفا بالمخاطر، وشركات السلاح التى تريد إثبات جدوى ما تنتجه وما تجنيه من أرباح، ومن هنا يأتى الخطر من تنامى النزعة العسكرية الأمريكية، التى يمكن أن يرى اليمين المتطرف فى أوساط رجال السياسة والمال والاقتصاد أنها طوق النجاة الأخير للولايات المتحدة من أزمتها الإقتصادية، وهو ما يتوافق مع تصريحات ترامب التى تبدو فجة، عندما تحدث صراحة أن على الدول دفع نفقات حمايتها، وكأنه بلطجى العالم الذى يفرض الإتاوات مقابل الأمن، ويحصل على عقود اقتصادية تحت ضغط القوة العسكرية وليس بالمنافسة الرأسمالية الحرة، وكأن التهديد بالحرب أو الحماية منها هو الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة الاقتصادية والسياسية التى تجتاح الولاياتالمتحدة. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد