هل يمكن للقبيلة أن تتعايش مع الدولة الوطنية التى تقوم الرابطة الاجتماعية فيها على المواطنة، التى يفترض فيها أن تتجاوز كل الروابط الضيقة المحلية، والقبلية، والدينية؟ وإذا ما استمرت هذه الروابط بقوة أكبر وأقوى من الرابطة الوطنية، ألا يشكل هذا خطراً كبيراً على الدولة الوطنية؟ لاشك أن الإجابة على هذين السؤالين تستدعى تقييم السياسات العربية التى اتبعتها معظم الدول الوطنية فى المنطقة فى الاحتفاظ بالبناء القبلي، وبالروابط الأولية قوية تعيد إنتاج نفسها بكل الصور والأشكال فى نطاق الدولة الوطنية الحديثة. ولكن لماذا طرح هذه الأسئلة الآن؟ فى اعتقادى إننا إذا كنا نولى اهتماماً بسؤال الدين وما ارتبط به من صور للغلو والتطرف، فإننا يجب أن نهتم بنفس القدر- بسؤال القبلية وما يترتب عليه من مشكلات. ولعل الأحداث التى شهدها العراق خلال السنوات الماضية، ونظيرتها التى نشاهدها اليوم فى ليبيا واليمن تجعلنا حريصين أشد الحرص على أن نلفت الانتباه إلى سؤال القبيلة. لقد كان أول تعامل حداثى مع مشكلة القبلية هو ما قام به محمد على عندما وطِّن زعماء القبائل بمنحهم اقطاعات من الأرض الزراعية خاصة فى الشريط الزراعى الممتد غرب النيل والملاصق للصحراء الغربية. ولقد كان محمد على يحاول بذلك درء الخطر الذى كان يهدد الأمن عن طريق الاعتداءات التى كانت تلحق بالفلاحين من جراء الصراع الفلاحي-البدوي. ولقد ظل وضع القبائل فى صحراء مصر ومعظم الدول العربية ذات الأبنية الاجتماعية القبلية، كما هو. فالقبائل تحصل على ما يحصل عليه بقية السكان من خدمات، وتدخل مثلما يدخل بقية السكان، تحت لواء الدولة الحديثة، ويتم التعامل معهم كمواطنين وفقاً لنصوص الدساتير. ولكن ظلت هذه القبائل لا تبرح مكانها، كما ظل الكثير منها يمارس نفس الأنشطة الاقتصادية التقليدية (من تربية الإبل والأغنام إلى الزراعة الموسمية الشحيحة العطاء)، كما ظلت القبائل متمسكة بعاداتها وتقاليدها وشرائعها المحلية، كما ظلت أبنية القوة والتدرج الاجتماعى قائمة يحافظ عليها كل أبناء القبيلة حتى أولئك الذين مستهم الثقافة الحديثة عبر التعليم أو عبر السفر إلى بلدان أخري. ويبدو أن الدول الوطنية الحديثة التى تأسست فى البلدان العربية بعد زوال الاستعمار قد استمرأت هذا الوضع، فقامت سياستها - فى أغلب الأحوال - على المحافظة على هذه الأوضاع القبلية، مع الحرص الدائم على أن يكون لهذه القبائل تمثيل فى أجهزة الدولة، خاصة فى الأجهزة التشريعية. لقد قامت العلاقة بين القبيلة والدولة الوطنية على المنافع المتبادلة، فالدولة تحصل على دعم من جانب زعماء القبائل والعشائر، وفى المقابل فإن الزعماء يحصلون على دعم ومساندة الدولة، ويكونون أكثر استفادة بالخدمات التى تقدمها. وأحسب أن الدولة الوطنية عليها أن تنظر فى هذه العلاقة من جديد وهى تسمع أصداء الحرب على الإرهاب، وتسمع أصداء الصراع والقتال الدائر فى بعض البلدان العربية. فهذا الصراع يبدو سياسيا من أعلي، ولكنه يرتد من أسفل إلى القبيلة، وتصبح القبيلة حاضرة فيه حضوراً فعلياً لا رمزيا. وتقدم لنا حالة اليمن نموذجاً نمطياً على هذا الوضع. فالميليشيات تنظم حول القبائل، والقوات المسلحة الرسمية تجد دعما من قبائل أخري، فيبدو الصراع فى النهاية وكأنه صراع قبلى تتغير فيه صور الحدود والهويات. السؤال الذى يجب أن يتجه إليه العقل على أثر هذا القول هو: إلى أى مدى يعتبر رهان القبيلة صحيحاً فى بناء الدولة الوطنية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تستدعى ثلاث قضايا، اثنتان فيها ترتبطان بالواقع المعيش، وثالثة ترتبط بالأسس النظرية لبناء الدولة الوطنية. القضية الأولي: ما نراه واقعاً أمامنا من انخراط القبيلة فى الصراع السياسى فى المجتمعات التى ظلت فيها القبيلة بنية راسخة لا تتغير. إن جزءاً كبيراً من هذا الصراع يرتبط بالنزعة العصبية القبلية وحدودها الجغرافية والثقافية، وإذ ما ارتبط هذا الصراع بأيديولوجية سياسية، فما يلبث الزعماء المأدلجون أن يستدعوا القبيلة ويطلبوا مناصرتها، فيرتدوا بذلك إلى أصولهم قبل الحداثية، ويصبح الانتماء الأيديولوجى انتماءً ثانوياً، بل أنه قد يخبو من العقل تماماً. ومن شأن هذا الاتجاه أن يعمق الصراعات، ويحولها من نطاقها السياسى إلى نطاقها الاجتماعى والثقافي، الذى يجعلها أكثر شراسة وعنفاً. القضية الثانية: ترتبط بسلوك الدول الوطنية نفسها التى تسعى إلى دعم القبيلة من خطابها السياسي، بل وتضع من السياسات وربما التشريعات ما يفتح أمام القبيلة مجالاً للتنظيم السياسى أو المدني. ومع تفهم الدوافع السياسية والنظامية وراء مثل هذا السلوك من جانب الدولة الوطنية، إلا أنه نظام يمنح القبيلة قوة فوق قوتها، ويغرى فئات أخرى (كالفلاحين مثلاً) ممن تحللت لديهم نظم القبلية باستدعاء القبلية وإلى الدعوة إلى استنبات القبيلة من جديد حتى وإن تم ذلك بأساليب مغلوطة. القضية الأخيرة: ومن شأن ذلك كله أن ينمى الميول اللاإندماجية، ويضع مفهوم المواطنة على المحك، المواطنة التى تتحول فى هذا الظرف إلى مجال انتماء ثانوى أمام سطوة الانتماءات الأخرى اللاإندماجية. وتلك هى القضية النظرية الهامة فى بناء الدولة الوطنية. فالمواطنة هى أساس بناء الدولة الوطنية، ولكن واقع الحال يدفعها بعيداً. فما بال الدولة الوطنية تنسى أساس تكوينها وبنائها، الذى هو المواطنة، وما بال التاريخ يتطور لا فى سبيل اكتمال بناء الدولة الوطنية، بل فى سبيل فناء الدولة الوطنية. وأحسب أن تأمل هذه القضايا على خلفية تاريخ العلاقة بين القبيلة والدولة الوطنية فى الوطن العربي، يجعلنا أكثر قدرة على أن نجيب على السؤال المتعلق برهان القبيلة فى علاقتها بالدولة الوطنية. ولن أفصل القول فى الإجابة عن السؤال، فالإجابة مضمرة فيما سقناه من حديث. وربما يكون أهم من ذلك أن نختتم حديثنا بالإشارة إلى ما هو مسكوت عنه هنا أو فى أماكن أخري. وأقصد هذا التعالق ما بين النزعة القبلية والنزعة الأصولية، ولماذا تترعرع الأصولية على نحو أكبر فى أحضان القبلية. قد أدعو القارئ الكريم إلى أن يتذكر معى ما قاله ابن خلدون حول رابطة العصبية والدين. لمزيد من مقالات د.أحمد زايد