على الرغم من أن ترامب قد عودنا فى سنته الرئاسية الأولى على مواقف وقرارات غير مألوفة فإننا يجب أن نتذكر أن قراره الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يتسق كل الاتساق مع منحنى تطور السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل عبر الزمن، فمنذ البداية انحازت السياسة الأمريكية لإسرائيل انحيازاً كاملاً، وعبر العقود السبعة التى مضت على إنشائها لم تتخذ هذه السياسة موقفاً متعارضاً مع إسرائيل وتصر عليه إلا فى 1957 حين أصر الرئيس الأمريكى أيزنهاور على الانسحاب الإسرائيلى الكامل من سيناء وقطاع غزة بعد عدوان 1956، ورغم هذا الانحياز التام فإن السياسة الأمريكية ظلت تحتفظ شكلياً ببعض المواقف التى تتسق مع مبادئ القانون الدولى وقرارات الأممالمتحدة على أساس أن الولاياتالمتحدة كدولة عظمى يجب أن تُظهر الاحترام الواجب لهذه المبادئ والقرارات، وهكذا ظلت السياسة الأمريكية تتمسك بمبادئ مثل عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة وعدم إجراء السلطة القائمة بالاحتلال أى تغييرات فى أوضاع الأراضى المحتلة, ومنها بطبيعة الحال الأنشطة الاستيطانية، بل إن المندوب الأمريكى فى الأممالمتحدة فى عهد الرئيس كارتر قد صوت فى مجلس الأمن مع تفكيك المستوطنات، وكانت هذه المواقف «المبدئية» من قبيل «أوراق التوت» التى تغطى سوءات السياسة الأمريكية, غير أن أوراق التوت هذه بدأت تتساقط بالتدريج اتساقاً مع الطابع البراجماتى للسياسة الأمريكية، ففى 2004 اعتبر الرئيس جورج بوش الابن أن تفكيك المستوطنات غير عملي، وهاهو ترامب الآن ينتهك مبدأ عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة المسلحة بتبرير اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنها كذلك من الناحية الفعلية، وهو ورجال إدارته يستخفون بعقولنا، ويقولون إن هذا القرار لا علاقة له بالوضع النهائى للقدس فى المفاوضات! من الناحية الفعلية أيضاً لا يعنى قرار ترامب جديداً بالنسبة لوضع القدس، فاحتلالها يبقى غير مشروع بموجب القرارات الدولية كافة، وإن جعلتها إسرائيل بالقوة، عاصمة لها، لكن الجديد بالتأكيد أن العوار الذى كان يسم الموقف الأمريكى قبل قرار ترامب قد وصل منتهاه وأسقط عن الإدارة الأمريكية أى اعتبار يؤهلها كى تكون وسيطاً فى عملية التسوية بعد أن حسم رئيسها وضع أخطر قضايا التسوية بجرة قلم، ويجب أن تكون هذه هى نقطة البداية فى مواجهة تداعيات القرار الأمريكى, بمعنى أن يكون هذا القرار بداية القطيعة التامة مع الإدارة الأمريكية كراعٍ للتسوية التى لم تثمر شيئاً على مدى ربع القرن فما بالنا بالوضع بعد هذا الانحياز؟ ولأن السلطة الفلسطينية هى التى توجد فى فوهة المدفع ولأن الإدارة الأمريكية قد كشرت عن أنيابها بمجرد ظهور مؤشرات على أن الرئيس الفلسطينى لن يستقبل نائب الرئيس الأمريكى فى جولته المقبلة فى المنطقة ولأنه من الحيوى للغاية أن تثابر السلطة على موقفها هذا فمن الضرورى أن تحظى فى هذا الصدد بإسناد عربى فعال، وقد لا تكون الدول العربية الآن فى وضع يسمح لها باتخاذ أدنى الإجراءات العقابية كاستدعاء سفرائها لدى واشنطن للتشاور بدليل نتائج الاجتماع الأخير للمجلس الوزارى للجامعة العربية، لكن حكوماتها يجب آلا تقف حجر عثرة أمام المبادرات الشعبية ومبادرات مؤسسات المجتمع المدنى الرافضة للقرار والساعية لإشعار الإدارة الأمريكية بأنها لا تتعامل مع موتي، وأنها سوف تدفع ثمن قرار رئيسها، ويمكن أن يكون موقف كل من شيخ الجامع الأزهر وبابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية برفض لقاء نائب الرئيس الأمريكى حين حضوره إلى المنطقة هو نقطة البداية، وبعدهما يجب أن تتوالى التحركات الشعبية وتحركات مؤسسات المجتمع المدنى فى الوطن العربى وجميع الأطر البرلمانية العربية من برلمانات وطنية إلى اتحاد برلمانى عربى إلى البرلمان العربى على ألا تكون هذه التحركات لمجرد الإعراب عن الغضب وإنما أيضاً للتأثير فى دوائر المجتمع الدولى كافة كى يتم الحصار التام لقرار ترامب ، فلا تجرؤ دولة أخرى على أن تحذو حذوه، ومن المهم كذلك أن تستعد الحكومات العربية ورجال الأعمال العرب لتعويض الفلسطينيين فى مواجهة القطع التام المتوقع للمساعدات المالية الأمريكية عندما يتمسكون بقرارهم مقاطعة الدور الأمريكى فى عملية التسوية. على أن عدم قدرة الحكومات العربية على فرض أى اجراءات عقابية مباشرة على الإدارة الأمريكية لا يستبعد بديل التواصل معها لمحاولة إقناعها بخطورة القرار لا على المصالح العربية والفلسطينية، ولا على الأمن فى المنطقة فحسب، وإنما على المصالح الأمريكية ذاتها، وعلى الخطط التى تعدها الإدارة الأمريكية لمستقبل المنطقة، وعلى سبيل المثال فقد ركزت الدبلوماسية الأمريكية كثيراً على إيران كمصدر رئيسى للإخلال بالأمن فى المنطقة، وهاهى للمرة الثانية تعطيها فرصة ذهبية لتُمَدد نفوذها، فقد جاء القرار سيئ التوقيت بعد يومين من افتضاح الطبيعة الإجرامية لحلفاء إيران فى اليمن، وكان من شأن اغتيالهم الرئيس اليمنى السابق أن يجيش مشاعر قطاعات عربية واسعة ضد إيران فإذا بأنصارها فى المنطقة يتصدرون مشهد الاعتراض على قرار ترامب، وكانت المرة الأولى عندما غزت العراق فإذا بها تتركه لقمة سائغة للنفوذ الإيراني، ومن ناحية ثانية لا يخفى أن دوائر رسمية عربية كانت تعمل بدأب للإعداد لتطبيع تدريجى مع إسرائيل بدت مؤشراته واضحة فمن يجرؤ الآن على المضى قدماً فى هذا المخطط؟ ومن هنا وجب السعى بكل السبل لإفراغ قرار ترامب من مضمونه ودفعه إلى التماهى مع الموقف الروسى وهو الإعلان صراحة عن أن المقصود بقراره هو القدسالغربية، أما الشرقية فهى عاصمة الدولة الفلسطينية، على أن هذا كله يجب ألا يحرف اهتمامنا عن أن مقاومة القرار يجب أن تبدأ أساساً من الملعب الفلسطينى وهو ما يحتاج مقالة خاصة. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد