رغم اللغو المنافق عن عملية سلام مزعومة، فإن قرار الرئيس الأمريكى- باعتراف الولاياتالمتحدةبالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية للقدس- ليس سوى مواصلة للسياسة الأمريكية التى أيدت الأطماع التوسعية لإسرائيل منذ عدوانها فى يونيو 1967. وإذا كانت مصر وبفضل حرب أكتوبر- قبل أى شىء- قد استردت أرضها المحتلة، فان المقاربة الجديدة لترامب ليست سوى ممارسة فجة لغطرسة للقوة، تريد من بقية الدول العربية والسلطة الفلسطينية قبول ما لا تستطيع قبوله، ولن تسفر المقاربة الفاشلة سوى وأدٍ محتوم لسلام لا تنشده اسرائيل؛ ولتطلعاتٍ الذين يدفعون المنطقة الى حرب سنية شيعية؛ عبثية وآثمة، بالتحالفٍ مع اسرائيل. ورغم اللغو المنافق عن محاربة الإرهاب، فان مقاربة الرئيس دونالد ترامب الجديدة تواصل استراتيجية سابقيه من رؤساء ديمقراطيين وجمهوريين، التى تنكرت للحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى ووظفت الاحتلال الاسرائيلى لفرض شروط مجحفة للتسوية السلمية، ثم شنت حروبا عدوانية العراق وسوريا وليبيا، ووظفت الفاشية التكفيرية والارهابية لتحقيق أهداف الفوضى (الخلاقة) بهدم وتفتيت الدولة الوطنية العربية. وقد تمكنت مصر بثورة 30 يونيو وبفضل وحدة شعبها وجيشها من إسقاط حكم الإخوان، الجماعة الأم لتنظيمات الفاشية التكفيرية والإرهابية، وكانت عصية على ضغوط أمريكية لتركيع مصر التى سعت لإعادة عملية تمكين الإخوان. ثم جاءت مقاربة ترامب، التى تعطى من لا يملك حقا لمن لا يستحق بقرار القدس، لا تحمل وعدا سوى بتعميق أحد أهم منابع التجنيد لقوى الارهاب الأسود والفوضى الهدامة، وضغط على مصر وحلفاء أمريكا من الدول العربية، التى لا يمكنها- شعوبا ودولا- أن تقبل بقرار القدس، الذى يوفر وقودا لقوى التطرف الإرهابية وعوامل التفكك الداخلية. وفى أصول قرار ترامب بشأن القدس، ورغم أصوات أمريكية تحفظت على توقيت وسياق القرار وحذرت من تداعياته، أزعم أن هذا تحديدا ما تريده الإدراة الأمريكية. وليس الدعم الأمريكى المطلق لاسرائيل أمر رئيس أمريكى؛ وإنما أمر مؤسسات الدولة الأمريكية، ويستند الى قانون وافق عليه غالبية أعضاء الكونجرس الديمقراطيين والجمهوريين فى دولة تضع قانونها فوق القانون الدولى. ويتسق قرار القدس مع المفهوم الأمريكى للأمن القومى الذى يجعله مرادفا للهيمنة العالمية، ويعبر عن مصالح للمجمع الصناعى العسكرى الأمريكى فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية لمضاعفة أرباحها. وسيلقى قرار القدس ترحيبا لدى غالبية الرأى العام الأمريكى الذى شوهت صورة العرب والمسلمين فى عقله ووجدانه، قبل عقود من أحداث سبتمبر، وقبل ما وصفه المفكرون الأمريكيون بزمن حروب المسلمين، ودفعوا نحو تأجيجه. ويعزز القرار دور الدولة الأمريكية التى خلقت تنظيمات القاعدة وداعش فى إعادة إنتاجها، كما يخدم جماعة الإخوان، التى سحب ترامب موقفه الانتخابى باعتبارها ارهابية، وهو دور يعبر عن مصالح أمريكية تتربح من تخليق عدو تحاربه أو تزعم محاربته، وتأجيج بؤر التوتر والتطرف والصراع، مهما تكن العواقب السلبية والمدمرة على الأمة الأمريكية فى الأجل الطويل. والواقع أن المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى قد تعاظم دوره فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية بتوجهاتها العدوانية والمشوِهة؛ لخصوم أمريكا من الشيوعيين من قبل، والخالقة لصورة أعداء أمريكا من المسلمين من بعد. ويقول السيناتور الأمريكى ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى الأسبق وليم فولبرايت فى كتابه (ثمن الإمبراطورية، 1989): «إنه قد تم إضفاء الطابع العسكرى على اقتصادنا؛ حيث اكتسب سباق التسلح قوة دفع هائلة بسبب المصالح الاقتصادية الضخمة والغوغائية الأيديولوجية التحريضية. وترتب على تورطنا العسكرى فى مختلف أنحاء العالم أن أصبح المجمع الصناعى العسكرى قوة بالغة التأثير تدفع الى سباق تسلح يجنى منه أرباحا طائلة، وقد أصبحت للأمريكيين مصالح مؤكدة فى هذا السباق لأنه مصدر ربح لمؤسسات كبرى ومصدر رزق لعمالة واسعة. وقد دفعت مصالح المجمع الصناعى العسكرى بسياستنا الخارجية بما ورطنا فى سباق تسلح متصاعد وجعلنا أهم مصدرى السلاح فى العالم وللشرق الأوسط، وفرض علينا الدفاع عن (حرية) يصعب تعريفها فى معظم أنحاء العالم. وقد صارت الصناعات ونشاطات الأعمال التى تلبى أوامر الشراء العسكرية أضخم منتج منفرد للبضائع والخدمات فى الولاياتالمتحدة؛ فأصبح العنف هو الصناعة الرائدة فى البلاد». ويخلص فولبرايت الى أن الأمر لن يستغرق طويلا حتى ندرك مجمل عواقب هذه الحماقة، موضحا أن التاريخ يكشف بوضوح أننا لم نكن قادرين أو عازمين على تعيين الأشخاص الأفضل ولا على خلق الحكومات الآمنة والمستقرة والديمقراطية فى كل البلدان التى تدخلنا فيها، مضيفا أن ثمة تشابها بين القوى العظمى على مر العصور، يتجسد فى صعودها وهبوطها، تُمارِس غطرسة القوة ثم تُقهَر فى نهاية المطاف، ومؤكدا أنه كما كان الأمر عبر التاريخ، يبقى التهديد الأعظم مبعثه الحمقى فى الداخل وليس الأعداء فى الخارج. وقد تناول فى بحث معمق صورة العرب المُشَوَهَة ودور اللوبى الموالى لإسرائيل فى أمريكا، أستاذ العلوم السياسية الدكتور ميخائيل سليمان الأمريكى- المصرى الأصل والمسيحى الديانية- فى كتابه (صورة العرب فى عقول الأمريكيين، 1987). ويقول باحثنا الوطنى الرصين: إن الصورة السلبية وشبه العنصرية التى يحملها الأمريكيون عن العرب- ودون تمييز بين العرب والمسلمين- تسهل على أى معاد لهم أن يستثير مشاعر الجمهور ضدهم، وما أن تحدث حالة (مناسبة) حتى تتحرك الصور الذهنية النمطية فى العقول، التى صنعتها مؤسسات التعليم والاعلام والسينما والفكر، فتُستحضر بيسر ويمسى العرب- أو أى زعيم أو قطر أو شعب عربى- هدفا سهلا مواتيا اومفيدا. فقد وصف عبد الناصر بأنه (هتلر على النيل) و (شيوعى مستتر) معا، وتقذف منظمة التحرير الفلسطينية وحتى الشعب الفلسطينى بأسره (شرذمة من الإرهابيين). ويستغل اللوبى الموالى لإسرائيل هذه الحالة كما يستغلها الساسة الأمريكيون ورؤساء أمريكا فى سعيهم لتطبيق سياساتهم فى الشرق الأوسط. ومنذ عدوان يونيو 1967 تعزز التحالف الأمريكى الأمريكى الاسرائيلى، ووظفت صورة العرب النمطية الجاهزة للترويج لزعم أن اسرائيل أفضل حليف لأمريكا وخير مدافع عن مصالحها. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم