أكتب إليك حكايتى عسى أن تستفيد منها البنات اللاتى قد يسرقهن العمر، فينجرفن إلى زيجات غير محسوبة العواقب خوفا من «العنوسة»، ولعلهن يصبرن، ولا يرمين بأنفسهن إلى التهلكة، فأنا سيدة فى السابعة والثلاثين من عمرى، حاصلة على مؤهل عال، وأعمل فى إحدى الجهات، وقد انشغلت بحياتى وأسرتى، إلى أن تجاوزت سن الثلاثين دون أن أتزوج، حيث أننا أسرة محافظة ومنغلقة على نفسها، وليس لنا معارف، أو علاقات تكفل لنا اللقاء فى مناسبات اجتماعية مع الشباب، أملا فى أن يحدث التآلف، ومن ثم الارتباط، وبمرور الوقت حدثنى أحد زملائى فى العمل عن رغبته فى التقدم لأهلى لطلب يدى، ولم أكن أعرف عنه شيئا، لكن القريبين منه أكدوا لى حسن أخلاقه وأدبه وشهامته، فاكتفيت بشهادتهم، وفاتحت أبوىّ عنه، فحددا موعدا له لزيارتنا، وخلال شهرين جهَّزنا الأثاث، وأقمنا حفل الزفاف، وانتقلت إلى بيته، وفى البداية وجدته يتعامل معى بصورة عادية، فيها شىء من الحب والتقدير، وعشنا حياة متوسطة، فاعتقدت أنه يعانى ظروفا مالية صعبة، فلم أشعره بشىء، واعتمدت كثيرا على مدخراتى من عملى ومساعدات أسرتى، وعوضنى عن ذلك ما لمسته من طيبة قلبه، ومشاعره الفياضة التى غمرنى بها، وللأسف كلما مرت الأيام أدرك أن هناك أمرا ما يخفيه عنى، وأن ما يبدو لى من هدوئه وطيبته ليس سوى قناع يرتديه لكى يخفى عنى حقيقته المرة أكثر وقت ممكن، إذ كشف عن بخله الشديد، وتوقف عن إعطائى مصروفات المنزل، وعندما طلبت منه نقودا لشراء متطلبات المعيشة اليومية، رد علىَّ: «اصرفى من مرتبك، أو هاتى من أهلك، أنا كفاية أنى تزوجتك»، فنزل الكلام علىّ كالصاعقة وتحجرت مكانى، وفضفضت بما قاله لى إلى أمى، وهى ووالدى على المعاش، وليس باستطاعتهما مساعدتى، ومع ذلك اقتطعا أجزاء من معاشيهما، وزودانى بها من أجل أن تسير حياتى، وكنت أبكى بحرارة، وأنا عائدة إلى منزلى، وأتحسر على حالى، وما وصلت إليه مع رجل يبدو أنه تزوجنى لأنه لم يتكلف شيئا فى هذه الزيجة.. وليتنى أوقفته عند حده، فما صرت إليه بعد ذلك جعلنى أموت فى اليوم مائة مرة، إذ اكتشفت فجأة أنى حامل وبمجرد أن علم بذلك، أحال حياتى إلى جحيم، ودفعنى إلى أحد الأطباء لكى أتخلص من الجنين، لكنى رفضت، وذهبت إلى أسرتى، وقال لى أبى «اصبرى.. إن الله مع الصابرين»، لكنه هاج ضدنا وأصر على إنزال الجنين، فساءت حالتى تماما، وتعرضت للإغماء أكثر من مرة، وحملنى أبواى إلى المستشفى، وأجريت لى الإسعافات اللازمة، ولما أبلغت أمى زوجى بما حدث لى، انفعل عليها بكلمات غليظة يجب ألا تصدر من زوج تجاه زوجته التى لم تظلمه أو تخذله، وتتمنى أن تكمل سعادتها معه، إذ قال لها: «لن أدفع مليما واحدا»، لأنه لم يكن يريد الإنجاب، ودفع أبى الفاتورة.. قد ترد علىّ بأنه ربما حالت ظروفه دون مساندتى، لكنى أقول لك: لقد اكتشفت أنه غنى جدا، ويمتلك منزلا كبيرا، وشقة فى حى راق، ويؤجرهما بالقانون الجديد، كما يمتلك سيارتين إحداهما يقوم بتشغيلها فى شركة لتأجير السيارات، إلى جانب مرتبه الكبير، ووظيفته التى تدر عليه دخلا يكفى وحده لتلبية متطلباتنا، وتحاملت على نفسى، وعدت إلى بيتى، لكن حالتى لم تستقر، ونصحنى الطبيب من جديد بالراحة، وأن أنام على ظهرى أطول فترة ممكنة، ولم يكن هناك مفر من أن أعود إلى أسرتى، ويبدو أنه كان ينتظر أن أقول له ذلك، لكى يتخلص من عبئى عليه! ومضت شهور الحمل دون أن يسأل عنى، ولما حان موعد الولادة، حوّلنى الطبيب إلى مستشفى خاص يعمل به، ومكثت فيه عدة أيام، وتحمّل أبى كل شىء، ووضعت بنتا جميلة، واشترت لها أمى الملابس وقرطا ذهبيا، وأقامت لها سبوعا حضره الجميع إلا هو! تخيل أنه لم يسأل عن ابنته، ولم يعرف عنها شيئا، وتمادى فى ظلمه لنا، ومرت سنة وراء أخرى حتى أكملت البنت أربع سنوات ونصف السنة، وحاولت توسيط الكثيرين لكى يتراجع عن عناده، وعدم سؤاله عنا بالسنين، فلم يتوصلوا إلى حلول معه، واتبع أسلوب المراوغة والكذب، ولم أجد بدا من أن أرفع دعوى ضده للمطالبة بنفقة ومصروفات لابنتى، ووكّلت محاميا كبيرا لرفع دعوى طلاق لى منه، وظلت القضية متداولة خمس سنوات كاملة، ثم فوجئت بنفقة ثلاثمائة جنيه لابنتى، ومائتى جنيه لى، ولم نحصل على مليم واحد منها حتى الآن، لكن الطلاق فشل لأن القاضى لم يقتنع بمبرراته وتكرر رفع الدعاوى بلا جدوى، ومازلت أنا وابنتى عبئا على أبى، ويلاحقنى العذاب ليلا ونهارا، ولا أجد من ينصفنى،.. إننى لا أدرى من أى نوعية يكون «أبو ابنتى»، فقلبى يتقطع وهى تقول لى: «نفسى أقول بابا، زى كل الأولاد، وهوه بابا ليه مبيسألش عنا»؟ وإنى أتساءل: لماذا يرفض القاضى تطليق الزوجة؟.. هل ينتظر أن تطلب الخلع وأن تتنازل عن حقوقها، وحقوق أبنائها؟.. إن الزوج يسعى دائما إلى ذلك، فهل يؤازره القاضى فى ظلمه؟.. إننى لست وحدى التى أتعذب من هذا الجحيم، فهناك الملايين غيرى من المعلقات، فأين دور الأزهر، ودار الإفتاء؟.. وهل يرضى ربنا وضع هؤلاء الزوجات، وقد قال الحق تبارك وتعالى فى الآية 129 من سورة النساء «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا». أرجوكم ارحموا الزوجات من الأزواج البخلاء، غليظى القلب الذين لا يعيرون أى اهتمام لأبنائهم وزوجاتهم.. هل تتصور يا سيدى أن ابنتى تقول لى: «أنا عايزة أغيّر اسم بابا وأكتب اسم خالى ورا اسمى».. إننى حزينة على حالى وحال ابنتى التى دخلت الحضانة، وترى الآباء يحملون أبناءهم ويلاعبونهم ويتابعونهم يوميا.. أما هى فأبوها على قيد الحياة لكنه لا يهتم بها ولا يسأل عنها، ويا كل البنات لا تتزوجن البخلاء، ومن لا يحترمون قدسية الزواج، ومن المهم أن تطول فترة الخطبة إلى أن يتبين السلوك الفعلى لمن يحاولون ارتداء الأقنعة، وتظهر طبائعهم، فالبخيل لا يمكن علاجه.. نعم فلقد فاض بى الكيل مما أعانيه، وتحيرنى أسئلة كثيرة من تجربتى المريرة أرجو أن تجيبنى عنها، ومنها ما الذى يغيّر القلوب؟، وما هو السبيل إلى التوافق النفسى بين الأزواج، فلا يحدث التقلب بالصورة التى عشتها ومازلت أتجرع مرارتها، وصار مصيرى أرجوحة يتلاعب بها رجل بلا قلب ولا ضمير.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول : أظهر زوجك لك الحب والشهامة والرجولة خلال فترة قصيرة لا تتعدى شهرين قبل الزفاف، وأسابيع معدودة بعده، ثم تغير فجأة إلى النقيض تماما، فلم تتحملى قسوته وبخله وانتقلت إلى بيت أهلك ومازلت عندهم حتى الآن، فهل كانت هذه هى طبيعته منذ البداية، لكنه تجمّل أمامك حتى يفوز بك دون أن يتكلف الكثير مثلما استشعرت من كلامك، وإن لم تسردى أى تفاصيل عنه؟.. أم أن التغير الذى طرأ عليه ارتبط بحملك، وبأنه لم يكن يريد الإنجاب؟.. ولماذا لم تنفصلى عنه فور اكتشافك بخله الشديد بدلا من تجرعك المرارة والأسى طوال خمس سنوات؟ إن القلوب تتغير عندما يتغير الكيان بأسره، وكذلك تتغير الآمال والرؤى، ويتبدل الهدف لكن قلب زوجك لم يتغير فقط، وإنما انقلب تماما أو إن صح التعبير صار بلا قلب لأنه منذ البداية لم يحبك، ولم يربطه بك سوى المظهر العام، كما أنك استجبت للزواج منه بدافع السن، وربما أيضا الثراء الذى كان باديا عليه ولم تعرفى حقيقته إلا بعد الزواج..أى جذبك الشكل دون الجوهر، وهى آفة الكثيرين الذين ينجرفون وراء المظاهر الخادعة، ولا يمنحون أنفسهم فرصة للاقتراب من الآخرين ودراسة أنماط حياتهم حتى لا يفاجأوا بما لم يكن فى الحسبان، إذ أن التعرف على النفس البشرية أمر صعب للغاية وفى ذلك أتذكر البيتين التاليين للشاعر إيليا أبو ماضى: فتشت جيب الفجر عنها والدجى ومددت حتى للكواكب إصبعى وعلمت حين العلم لا يجدى الفتى أن التى ضيعتها كانت معى ولذلك فإننا يجب أن نتعامل مع الناس بما يبدو لنا منهم، دون أن نرجو المزيد، أو نتطلع إلى ما هو أفضل، وحتى فى علاقة الزوجين ببعضهما، فإن الأمر يقتضى قدرا من المرونة بمعنى ألا يكون كلاهما صلبا فيكسر، ولا لينا فيعصر، وإنما يطوع نفسه للمعطيات الموجودة فى حياته ليصل إلى مساحة مشتركة مع الطرف الآخر، يستطيعان من خلالها خوض غمار الحياة فى سهولة ويسر. وفى حالة اكتشاف بخل الزوج يجب على الزوجة أن تطلب منه احتياجاتها دون تحميله فوق طاقته، ولا تعوده أن يتجاهل متطلباتها إن كان قادرا على تلبيتها، وأن تواظب بصبر تعويده على الإنفاق على الأسرة بالشكل الذى يتناسب مع دخله، لأن تجاهل بخله يزيده إصرارا عليه، وهو ما وقعت فيه بإلقائك مسئوليتك أنت وابنتك على أبويك، فالبخيل يحتاج فى التعامل معه إلى سياسة «النفس الطويل» لإقناعه بالانفاق السليم على أسرته دون تقصير، وكل ذلك دون إلحاح يجعله ينفر من زوجته، ويظن أنها طماعة ومادية، ولا تقدر اعتباراته التى يأخذها فى الحسبان. ومن المهم تذكير البخيل بأن هذه الصفة غير المرغوبة تقلل من قيمة الرجل، وتحط من قدره، حيث يقول تعالى «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر 9)، وإنى أستغرب أنك لم تخلعيه، خاصة أن الشواهد أكدت لك منذ البداية أنه لا أمل فى خلاصه من حالة البخل التى تملكته، فانتظار الطلاق من أجل الحفاظ على حقوقك المادية سوف يطول، وسيقدم كل طرف منكما ما يثبت أن الآخر هو المخطىء، وقد لا تحصلين فى النهاية على مبتغاك منه، فحالتك الراهنة، لا أنت زوجة لك كامل الحقوق والواجبات، ولا أنت مطلقة تسعين إلى البحث عن زوج آخر مناسب، وللأسف فإنه يجد فى وضعك الراهن لذة وتسلية، وينسى أنه يرتكب إثما عظيما، وفى القرآن الكريم ما يؤكد ذلك، لكن القسوة جعلته لا يستشعر معانى الآيات التى تتناول هذه القضية، ولا يتدبر دلالاتها حيث يقول تعالى: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة 231). إن الإضرار بالزوجة أو تعليقها محرم شرعا، ونهى عنه الله سبحانه وتعالى، فأرشدنا إلى الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، فالتعليق هدر لحق الزوجة الإنسانى، بالإضافة إلى معاناتها فى متابعة أولادها خصوصا بالدوائر الحكومية، وإنى أربأ به أن يفعل ذلك، فمن أجل ابنته يجب عليه أن يعيد النظر فى موقفه، وأن يحافظ على مساحة من الود بينكما بعد الانفصال، وليعلم أن الله سبحانه وتعالى سوف يحاسبه على موقفه المعاند لكما. ويجب على الآباء والأمهات التريث فى اختيار أزواج بناتهم، وأن يدققوا فى التفاصيل، لأن ما يبنى على باطل ليس إلا باطلا، وكلما قام الاختيار على أسس سليمة كان ذلك مدعاة لحياة مستقرة قائمة على الود والتفاهم، والعاقل دائما هو من يدرك أن السعادة فى الطمأنينة وراحة البال، وليست فى اكتناز الأموال.. فأرجو أن يعيد زوجك النظر فى موقفه، ولتكن هناك جلسة مصارحة ومكاشفة لما يعلق فى نفسيكما، ثم الانفصال فى هدوء، وحينئذ سيكون بمقدوره أن يرى ابنته ويتابعها، إذ لا أظنه سيكون راضيا وهو يقرأ العبارة المؤلمة التى نطقتها ابنتك بتلقائية بأنها تريد أن تضع إسم خالها بدلا من أبيها، ولا أدرى كيف يرتاح باله وابنته بعيدة عنه؟، فالأب الطبيعى يسعى إلى أبنائه سعيا، ويطلب سعادتهم وراحتهم، ويتمنى أن يكونوا أفضل منه حظا فى الدنيا. وبقليل من تحكيم العقل تصبح الأمور أفضل، وتتحقق طمأنينة النفس، فاهدئى بالا يا سيدتى، وسوف تحمل الأيام إليك ما يريح بالك، وما عليك إلا أن تفعلى ما فى وسعك للحصول على حقوقك، ثم تتوكلى على الله، فمن يتوكل على الله فهو حسبه، وهو نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى.