الصحافة الورقية فى طريقها للاندثار من العالم، فى غضون عقدين من الزمان، وحتما سوف تلقى ب «الفوطة البيضاء» على طريقة مباريات الملاكمة أمام الصحافة الإلكترونية، وهو ما يعنى ببساطة أنك لن تستطيع بعد عشرة أو خمسة عشر عاما، أن تمسك صحيفتك المفضلة كل صباح، لتقلب صفحاتها على نحو ما تفعل الآن، وتقرأ ما يشبه تلك السطور، وأنت تحتسى فنجان القهوة فى شرفة البيت، أو تدخن الشيشة على مقهى فى الشارع القريب. هذا ما يقوله بعض المتخصصين فى صناعة الاعلام، ومعظمهم أكاديميون لم يمارسوا المهنة قط، بل إن كثيرا منهم لم يدفعوا مليما فى شراء صحيفة أو مجلة، لأن الصحف تذهب إلى بيوتهم كهدايا يومية، وهم يرجعون ذلك إلى التراجع اللافت الذى ضرب توزيع الصحف المطبوعة أمام سطوة الإنترنت، وما تضمه الشبكة العنكبوتية من آلاف المواقع الإلكترونية، ناهيك عن مواقع التواصل الاجتماعى التى يعتبرها كثيرون الآن، ومن بينهم مسئولون متنفذون، البديل العصرى للصحافة الكلاسيكية. وهذه أيضا رؤية تفتقد إلى كثير من الدقة، لأن الحقيقة أعقد من ذلك بكثير، كما أن حكاية تراجع التوزيع وانخفاض إيرادات الإعلانات، ربما يصلحان لتقييم مدى النجاح أو الفشل فى ميزانية إحدى شركات الصابون، لكنه لا يسرى على الصحافة كمهنة ودور ورسالة. فى عام 1969 اشترى إمبراطور الإعلام الأمريكى الأشهر روبرت ميردوخ، الذى يمتلك اليوم أكثر من 175 صحيفة ومحطة تليفزيونية عالمية كبرى، صحيفة «الشمس» البريطانية The Sun وكانت جملة خسائرها حينذاك تبلغ نحو خمسة ملايين دولار سنويا، لكنه نجح خلال فترة وجيزة، فى تحويلها إلى صحيفة شعبية بامتياز، عبر إضفاء مزيد من الجاذبية على الشكل التحريرى، واستقطاب قطاع جديد من القراء، ما أسهم فى زيادة توزيع الصحيفة إلى أكثر من أربعة ملايين نسخة، وقد كان رقما مرعبا فى حسابات التوزيع لصحيفة، لم تكن مبيعاتها تزيد فى أفضل الظروف عن خمسمائة ألف نسخة، وهو رقم بالمناسبة لم تجرؤ صحيفة مصرية أو عربية على الاقتراب منه منذ عقود. السؤال هو: هل ينسحب كل ما سبق على الصحافة فى المنطقة العربية، ومصر على وجه الخصوص؟. أعتقد أن الإجابة ستكون لا النافية، حتى وإن اعترفنا بأن الصحافة المصرية تعيش هذه الأيام، واحدة من أسوأ الأزمات التى مرت بها، منذ ظهورها لأول مرة فى ديسمبر من عام 1828، ممثلة فى جريدة «الوقائع المصرية» فى زمن محمد على باشا، وهى برأيى أزمة يتداخل فيها الاقتصادى والسياسى، مع المهنى والقانونى، ثم تأتى فى مرحلة تالية حكاية المنافسة مع الصحف الرقمية والقنوات الفضائية. إن التطوير الشامل، هو التحدى الأكبر الذى يواجه الصحافة الورقية الآن، وهى مطالبة بمواجهته اليوم قبل غد باحترافية كبيرة، وما تعانيه الصحف هذه الأيام من أزمات، يتطلب من إدارات التحرير فى مختلف مؤسساتنا الصحفية، قرارات حاسمة وجسورة، تستهدف تطويرا كاملا، يشمل الشكل والمضمون فى آن واحد، فيربط الإلكترونى بالورقى بطريقة جذابة ومبتكرة، ترد الاعتبار للصورة الصحفية المبدعة، والقصة الخبرية المتكاملة، والتحليل السياسى المعمق، والرؤى الحقيقية التى تستشرف الأحداث، وعندها فقط يمكننا القول بأن صحافة الورق قد ربحت الجولة، بالقاضية الفنية.