تركيا الآن تعيش الحيرة والأجواء المضطربة، والمراقب يتساءل أيهما يصدق صانع القرار أو مناوئيه وكلاهما على نقيض الآخر، بيد أن هناك مشهدين رئيسيين أولهما الخطاب الأردوغانى ومعه أركان حكمه بلا استثناء، وهو المسيطر إجمالا متحكما فى الأثير، يؤكد على نحو لا يدانيه أى شك أن دولته «قوية بحزبها القائد، وبعزم وإرادة شعبنا، تستمر بلادنا فى إثبات وجودها كجزيرة للاستقرار داخل منطقة تكثر فيها الأزمات، واقتصادها جسور شامخ يقف على أعمدة راسخة، والدليل على ذلك تحقيقه معدلات نمو غير مسبوقة والتى تدحض مزاعم مؤسسات التصنيف الدولية الشريرة المسيسة المأجورة والتى تحيك المؤامرات ضد النهضة التركية». وها هو بانيها ومفجرها يزعق فى مناصريه بمدينة قارص الواقعة أقصى الشرق منددا بخونة الداخل وعملاء الخارج قائلا «نحن لا نخطط فقط حتى عام 2023 والذى سيوافق مرور قرن على تأسيس الجمهورية ، بل لسنة 2053 بالتزامن مع ذكرى مرور ستة قرون على فتح إسطنبول على يد محمد الفاتح العظيم». وطبيعى أن يطرح السؤال، علام ذلك يا ترى ؟ فوريثة المجد الغابر الذى يراد لها أن تعود مهما يكن الثمن باتت كما كانت أبان الخلفاء المستبدين عنوانا للقمع والسلطوية. فى المقابل يبدو الشارع غارقا فى همومه التى لا تتوقف: كساد مروع مع انحسار وانكماش القوة الشرائية، ولان الليرة منهارة أرتفعت اسعار السلع الأساسية بشكل لافت والبسطاء فى يأس يقولون أنهم نسوا شراء اللحوم بعد أن وصلت أثمانها لأرقام لا تتحملها دخولهم المتواضعة التى لا تتغير، والبعض منهم الذين يملكون قدرا من المدخرات ضربوا فى مقتل بعد أن التهمها جنوح العملات الأجنبية والدولار الواحد يبدو عازما على تخطى الاربع ليرات فى غضون الأيام المقبلة، كل هذه المظاهر لا وجود لها البتة فى ميديا الحكم لأنها ببساطة من صنع الشيطان! أما المشهد الثانى فالتنكيل بالمعارضين مستمر على قدم وساق وجاءت محاولة الانقلاب الفاشل منتصف يوليو العام الماضى كذريعة للاطاحة بكل المتنافسين المحتلمين ، وغير المحتملين، وعرقيا جرى ويجرى تهميش للأكراد بإقصاء رؤساء بلدياتهم ونوابهم المنتخبين واسقاط العضوية عنهم ووضعهم على قوائم الإرهابيين المطلوبين لل «عدالة» والتهديد بتجريدهم من الجنسية وهو ما دعا الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب الديمقراطية سربيل كمال باى أن تقول عبر تويتر إن «من يغضون النظر عن التطهير السياسى عليهم أن يستعدوا للعيش فى العار» وقالت زميلتها سارى يلدز إن «الديكتاتورية الأكثر إثارة للضحك والبكاء فى التاريخ لن تفلت من العدالة». والأقلية العلوية وعقابا لها لمساندتها المعارضة العلمانية كان ولابد أن تطالها اللعنات بوضع إشارة أكس على أبواب 13 منزل يقطنها العلويون فى حى جمال جورسل وسط مدينة مالاطيا وسط شرق البلاد وطبيعى أشاع الحادث الذى لم يكن الأول حالة من الذعر والخوف وصفها محمد طوبال رئيس جمعية سلطان بير الثقافية التى يفترض أنها ترعى مصالحهم بمحاولة لافتعال فوضى عبر اشعال فتيل فتنة طائفية بين سنة تركيا وعلوييها. فى ظل تلك الأجواء الضبابية والقاتمة، طفت من جديد فضائح الفساد التى سبق وتم الكشف عنها يومى 17 و 25 ديسمبر 2013 وتخيل صانع القرار أن الستار أسدل عليها إلى الأبد بعد أن تدخل وأوقف التحقيقات بشأنها، ولكن ظنونه خابت، لتعود بقوة لم تكن فى حسبانه، متمثلة فى محاكمة رجل الاعمال التركى الإيرانى الأصل رضا صراف أمام إحدى محاكم نيويورك، ولأنه كان مقربا جدا من أردوغان، فاحتمال تورط الأخير أمر لم يعد مشكوكا فيه، خاصة بعد أن أدلى باعترافاته لرئاسة هيئة المحكمة والتى مست كبار المسئولين الاتراك المتورطين معه فى انتهاك الحصار المفروض من قبل الولاياتالمتحدة على إيران وكل هذا مستحيل أن يتم دون علم أردوغان عندما كان رئيسا للوزراء. يذكر أن نجله الأكبر بلال، أحد المشتبه بهم الرئيسيين فى فضيحة ديسمبر قبل أربعة أعوام متورط أيضا فى قضية غسيل أموال أعلن عنها فى إيطاليا السنة الماضية وكشفها رجل أعمال معارض يعيش فى المنفي، والذى أكد أن بلال هرب إلى إيطاليا «مع مبلغ كبير من المال» وفريق من الحراس الشخصيين المسلحين الذين استخدموا جوازات سفر دبلوماسية. إضافة إلى ذلك هناك الحملة المدوية «الموثقة» التى يقودها زعيم حزب الشعب الجمهورى المعارض كمال كيلتش دار أوغلو ضد الجالس فى القصر الرئاسى بالعاصمة أنقرة، متهما إياه بالاحتفاظ بملايين الدولارات فى حسابات مصرفية خارج البلاد وضخها فى شركات تتبع أقرباء له بمالطا. ورد أردوغان على تلك التصريحات قائلا «لو كان لأردوغان قرش واحد خارج البلاد، فعليه (أى كيلتش دار أوغلو) أن يثبت ذلك ،وإن نجح، فإننى لن أستمر فى منصب الرئاسة لدقيقة واحدة». وأضاف «أدعو هذا الشخص، الذى لن أفكر حتى فى نطق اسمه هل هناك أى مستندات تثبت صحة ادعائك؟، فى حال كانت موجودة فاجعلها علنية» وسرعان ما استجاب كيلتش دار أوغلو كاشفا إياها على الملأ أصلية غير مستنسخة وممهورة بالأختام الرسمية، هنا وفى ذات اللحظة أجمعت كل الشبكات الفضائية المواليه للرئيس أنها مزورة بالمطلق. وبعد أن كان الزعيم المعارض يُتهم بدعمه المتعاطفين مع منظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية صار يُنعت بأنه من أنصار الداعية الدينى فتح الله جولين المقيم فى ولاية بنسلفانيا ، وفى اليوم التالى اضافت أحد أبواق العدالة الحاكم نعتا آخر ألا وهو «عميل للسى أى إيه». لقد بدأت المعركة ولن تعود عقارب الساعة للوراء فهل يحقق من أتٌهم بالخيانة والعمالة معا ، وعده الذى تعهد به خلال مقابلة مع مجلة «فوكس» الألمانية، بالإطاحة بأردوغان فى الانتخابات المزمع إجراؤها مستهل العام بعد القادم وعلى الأوروبيين أن يثقوا بذلك؟ ووفقا لكل القوى المؤيدة للديمقراطية يبدو أن نظام الباديشاه أصبح آيلا للسقوط..