الفلسفة حسبما قيل لنا هى البحث عن الحقيقة. وصورة الفيلسوف اليونانى ديوجين وهو يحمل مصباحا مضيئا فى وضح النهار ليبحث عن الحقيقة فى السوق صارت رمزا على هذا الاهتمام بالحقيقة. ويعطى هذا الرمز انطباعا بأن الحقيقة موجودة سلفا، وعلى الفيلسوف التفتيش عنها حتى يجدها ثم يعلنها للجميع. ولكن جاء الفيلسوف ابو يعقوب الكندى ليضع أمامنا مجموعة المعطيات تتمثل فى أن الحقيقة ليست ملكا لفرد معين ولا مجموعة معينة، وإنما هى إنجاز مشترك بين جميع الشعوب، وهى أيضا بحسب الكندى ليست نتاجا لفترة تاريخية معينة، ولكن تاريخ العالم ليس إلا مسيرة للاقتراب من الحقيقة. فعلينا بكل تواضع أن نتخلى عن اعتقادنا بأننا نمتلك الحقيقة، ولكن علينا فقط أن نسهم فى إخلاص وتواضع بنصيبنا فيها. جاءت الفلسفة المعاصرة ابتداء من النصف الثانى للقرن التاسع عشر لتبين لنا أن الخدمة الفعالة التى يمكن أن نسديها لقضية البحث عن الحقيقة هى تحطيم الحقائق المزيفة التى تستولى على عقول الناس. ويحدد الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو بداية الفلسفة المعاصرة مع مفكرين ثلاثة هم الذين أطلقوا هذه الموجة الجديدة وأدخلونا فيما يسميه فوكو اعصر الاشتباهب. والاشتباه يختلف عن الشك. فالشك معناه هو عدم الثقة فى أن ما نسمعه مؤكد أو يقيني، أما الاشتباه فهو افتراض أن للكلام غرضا خفيا مختلفا عن الغرض المعلن. صحيح أن الانسان من قديم الأزل فى غمار التواصل عرف الظن والتوسم والتوجس. ولكن المفكرين الثلاثة حولوا هذه المشاعر المبهمة إلى مناهج فى التفسير ومرحلة ضرورية لتأسيس العلوم. المهم أن هؤلاء المفكرين مطعون فى انتمائهم للفلسفة. فماركس الذى بدأ فيلسوفا، ولكنه ضجر من التناحر مع أفكار ميتافيزيقية وأراد دراسة الواقع فأصبح عالم اقتصاد، ونيتشه كان يقول عنه الاستاذ يوسف كرم اأديب حُشر فى زمرة الفلاسفة«، وفرويد طبيب اكتشف التحليل النفسى كأسلوب للعلاج. كان لكل من هؤلاء المفكرين الثلاثة مفهوم مركزى يدور حوله منهجه التفسيرى. مفهوم الايديولوجيا لدى ماركس يشير إلى منظومة من الأفكار التى يعتقد المرء أنها الحقيقة فى حين أنها قناع يخفى عنه الواقع. ولهذا يعتبرها ماركس وعياً زائفاً. وتتشكل الايديولوجيا فى ذهن المرء نتيجة لآليات ثلاث: أولاها تحويل المصلحة الخاصة إلى مصلحة عامة؛ فرجل الأعمال يرى صادقا أن السبيل لحل مشكلات مصر فى تحرير السوق وفتح الاستيراد، وأصحاب المزارع يرون أنه لا جدوى من منافسة الدول المتقدمة فى مجال الصناعة والحل فى الانتاج الزراعي. وثانينها تحويل ما هو تاريخي، فالنظام العبودى فرضته فترة تاريخية معينة فى تطور الحضارة البشرية ولكن أرسطو كان يرى أنه نظام فرضته الطبيعة، تماما كما يعتقد آدم سميث أن نمط الانتاج الرأسمالى هو ما يقتضيه العقل. وثالثتها أن الوضع الطبقى يجعل الانسان يتعامل مع رغباته على أنها وقائع وأن التاريخ الانسانى يسير فى مسار يسمح له بتحقيق تطلعاته. وكل هؤلاء حين يتحدث لا يتصور أنه يكذب أو يقوم بتضليل الآخرين، فهو صادق ولكن لا علاقة لما يقوله بالحقيقة. أما نيتشه فقد شن هجوما على ما كان دائما محل توقير الجميع وهى الأخلاق. بحث الفلاسفة السابقون مثل أرسطو ومسكويه وكانط عن سر إعجاب الناس بها وعن مصد الإلزام الأخلاقى عند البشر. ولكن نيتشه اعتبرها عرضاً لمرض أصاب الإنسانية. فالمتواضعون وقليلو الموهبة يريدون أن يفرضوا نمط حياتهم على الأفذاذ. فلسفة نيتشه تدعو الفرد لأن ينأى بنفسه عن السير وراء القطيع وأن ينحو دائما إلى التفرد. الانسان حيوان عاقل ومعنى ذلك أنه يتأمل ويتدبر ويزن الاختيارات ويقرر ثم يتصرف. هكذا نفسر أفعال الانسان العمدية. ثم جاء فرويد، من خلال مفهوم اللاوعي، ليبين لنا أن أغلب تصرفاتنا تتم بناء على ما لا نعرف وليس على ما نعرف. وما نقدمه لأنفسنا وللآخرين على أنها أسباب ومبررات لتصرفنا، لا يعبر عن الدوافع الحقيقية للفعل والتى لا نعرفها. وهذا الدور الفعال للاوعى لا يخص تصرفات الفرد وحده، بل ينسحب على المسيرة التاريخية للبشرية. بعد كل هذا الاشتباه يحق لنا أن نتساءل: هل كانت صورة ديوجين يحمل مصباحا مضيئا فى وضح النهار تمجيدا للبحث عن الحقيقة أم سخرية من عبث محاولة لا جدوى من ورائها؟. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث