يقال فى أدبيات علم النفس وطب النفس إن موسم تغير الفصول يثير شجناً في قلوب الناس؛ وربما نشوةً قبيْل حلول الدفء وتفتح الأزهار. وبما أننا الآن على أبواب دخول البرد, فإن ما يحدث فى النفس الآن هو الشجن, خاصة فى منطقة من العالم تدعو للحزن وتستدعى الكآبة, فى كل فصول السنة والحمد لله, لولا قدرة الإنسان على التكيف والبلادة وموت الجِلد إزاء ضربات عصا الزمن؛ وإلا لما تمكّن الشرق أوسطيون من تحمُّل حماقات بنى جلدتهم واستثمارات المحيطين بنا من بنى آدم الذين يصطادون فى الماء العكر, وينتفعون ويسترزقون من تعاستنا.. ولكن لنعُد للشعر, ودعونا من الواقع وآلام الخريطة المحيطة بالبحر المتوسط من الشرق والجنوب. لنتحدث عن دخول الشتاء, وما يبعثه فى بعض النفوس من شجن موسيقىّ, وما تثيره الحاجة للدفء من حنين, وتوقظه من ذكريات حميمة, فيها تواصُل الأحباب وسَمَر المَوَدّة, واستدفاء القلب الإنسانىّ بالقلب الإنسانىّ. وسوف نكتشف أن ذلك الحنين والافتقاد والشجن هو نوع من الترف والرفاهية, حين نفكر فيمن تشردوا بسبب الحرب, ويتعرضون الآن للموت من البرد أو الجوع أو كليهما, هذا إن لم يموتوا بفعل النار وأطماع السياسة والفكر المريض المهووس بحلم دخول الجنة على أشلاء الأهل والجيران... ورغم كل هذا, فإن القلب يرتعش عند دخول البرد؛ وإن رحمنا الله من شتاء خشن بين ضحايا اقتتال الإخوة, ومَنّ علينا بقدر من السلام والأمان النسبىّ, فإننا نسمع فى أعماقنا موسيقى تتصاعد لدى أول هبّة هواء بارد, ونمتلئ بالشجو والحزن الشعرىّ والحنين للدفء الروحىّ- وفى نفس الوقت يوجعنا الضمير! إذ نتذكر من لا يملك ترف ذلك الحنين وهذا الشجن, لأن البرد يقتله والجوع يفترسه, أو النار تنهشه باسم الله أو الوطن أو العقيدة. ها أنت ترى يا عزيزى أنى أحاول منذ أول سطر أن أكتب مقالة أدبية؛ لوحةً قلمية رومانسية عن دخول الشتاء, لكنّ معطيات السياسة والسجل اليومىّ الشرق أوسطىّ يأبى علىَّ أي شاعرية, ويجبرنى على التيقظ والانتباه من حلم اليقظة وكل ما هو شعرىّ, ويحرمنى الخيمةَ والواحة إزاء خشونة الصحراء, الصحراء الكبرى الممتدة من الخليج للمحيط. ومع ذلك, فإن الشعر والرومانسية ليستا رفاهية خالصة؛ بل هما جزء لا يتجزأ من حاجة الإنسان القاهرة للتكيّف واحتمال الحياة. هما أحياناً ضرورة وليس ترفاً؛ كالنوم وإغماض العين لبعض الوقت, لأن الصحو المتواصل يؤدى للموت أو الجنون. ولذلك ينفعنا أن نتناسَى ولو قليلاً المعنى الحقيقىّ لدخول الشتاء: الموت من البرد والجوع, وقسوة آلام جروح المصابين بفعل الغارات, أو جَرّاء تفجيرات الفردوس وأحضان الحور العين! لننسَ هذا مؤقتاً, ونستحضر الجانب الناعم الشعرىّ لمقدم الشتاء, خاصة فى بلاد حبتها الجغرافيا بالدفء النسبىّ, ويكاد الشتاء يكون فيها جميلاً, لولا حماقة بعض أبنائها وأطماع المحيطين بهم. لننسَ إن استطعنا خشونة واقعنا.. ولكن.. هل نستطيع؟ يبدو أننى لن أقدر فى النهاية أن أتحدث عن الجانب الشاعرى لدخول الشتاء.. لأن السياسة أفسدت الأدب, والحرب قتلت فيما قتلت الصور الشعرية, وترف التشبيه والاستعارة والأحاسيس الناعمة.. وذلك الشجن الموسيقىّ والطرب العاطفىّ, الذى يبدو أنه استشهد فيمن استشهدوا.. ولم تبقَ إلا الصور المفزعة التى تبثها الفضائيات.أعتذر للقارئ عن مقالة رومانتيكية لم أفلح فى كتابتها, لأن خيالى مُحتل, وحتى أحرره من الصور الواقعية أحتاج بعض الوقت... ونحتاج جميعاً الكثير جداً من بلسم الجروح. لمزيد من مقالات بهاء جاهين