وحدها المطربة والفنانة القديرة شادية تقف بمحاذاة أكبر نجمات العالم فى فن الأداء والتمثيل من كان يصدق أو يقول إن تلك الفتاة الرقيقة والبريئة التى ظهرت فى أول بطولة لها بفيلم «العقل فى إجازة» أمام محمد فوزى، هى نفسها التى تقف مصلوبة العود، واثقة الفعل، حادة البصر تقول عينها إن بلدها أهم من حب عمرها فى دور فؤادة «الخادمة» بفيلم «شىء من الخوف»، أو أنها حميدة «زقاق المدق» تلك الفتاة الشعبية البسيطة التى تقتلها طموحاتها وتطلعاتها المادية، كانت شادية ممثلة من طراز فريد برعت فى العديد من الأدوار وكانت قادرة على أن تلون أداءها وتنتقل من شخصية صعبة لأخرى أكثر تركيبا. .................................. المفارقة أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ الذى كان يراها فنانة لطيفة شقية لا تصلح لتجسيد شخصياته الروائية التى تم نقلها إلى الشاشة، هو نفسه من قال إنها تستحق الأوسكار وعن جدارة حيث قال عن شادية حينما شاهدها فى الاستوديو أثناء تصوير فيلم زقاق المدق: «شادية جعلتنى أشاهد حميدة على الشاشة.. لقد كنت أشعر بكل خلجة من خلجات حميدة تمشى أمامى على الرغم من تخوفى الشديد من قدرتها على تجسيد الدور منذ ترشيحها له». وأضاف: «شعرت لأول مرة أن الشخصية التى رسمتها على الورق أصبحت حقيقية من لحم ودم لتتحرك أمامى على الشاشة وكانت حميدة فى زقاق المدق صورة لقدرة فائقة للفنانة. لا أتصور غيرها قادرا على الإتيان بها». وتابع محفوظ فى أحد حواراته الإذاعية أن شادية «كذلك فى غير أعمالى فقد رأيتها فى بداياتها فى دور الأم المطحونة المضحية فى فيلم (المرأة المجهولة) وتصورت أن بمفردها الحصول على جائزة الأوسكار العالمية فى التمثيل لو تقدمت إليها بأعمالها». وقال إن شادية استطاعت أن تعطى سطورى فى رواياتى شكلا مميزا لا أجد ما يفوقها فى نقل الصورة من البنيان الأدبى إلى الشكل السينمائى. الانتشار والنجاحات الجماهيرية منذ بداياتها تركت شادية نفسها، لتجارب سينمائية متنوعة تتراوح ما بين الرومانسى والكوميدى، وبذكائها الفطرى أدركت ان تقديمها تجارب كوميدية مع اسماعيل ياسين سيزيد من جماهيريتها، لذلك لم تتردد فى أن تشكل معه ثنائياً فنيا حيث قدما معا «الستات ما يعرفوش يكدبوا» و «بشرة خير» و «الهوا مالوش دوا»، وبما أن كمال الشناوى كان واحدا من فتيان الشاشة شاركته العديد من الأعمال، رغم أنه كان زوج شقيقتها عفاف ولكن الجمهور دائما كان يراهما ثنائيا رومانسيا صعب أن يتكرر وتمنوا زواجهما فى الحقيقة وتوالت اعمالها الرومانسية مع فتيان الشاشة وقتها عماد حمدى،و صلاح ذو الفقار، و رشدى أباظة، وشكرى سرحان، وحتى محمود ياسين، وتظل تجربة «أغلى من حياتى» عام 1965 واحدة من أهم التجارب الرومانسية فى مشوار شادية وصلاح ذو الفقار وأصبح نداؤها «أحمد واجابته منى» من أكثر الجمل والمشاهد الرومانسية المشهورة فى السينما المصرية، وانطلقت شادية بقوة لتشارك نجوم الطرب والغناء على تنوع مشاربهم وألوانهم وشكلت ثنائياً مع محمد فوزى، وعبد الحليم، فريد ألأطرش وكارم محمود، لتصبح «ملكة الديو» فى تاريخ السينما الغنائية، حيث انها مع كل مطرب فيهم كنا نرى منتهى الرومانسية مع حليم والخفة والشقاوة مع فوزى، والشعبية مع كارم محمود. التحدى و الجرأة والنضج الفنى شادية لم تترك نفسها لنوعية محددة من الأفلام بل تلونت وتقلبت بين الأدوار وأفادتها أن علاقاتها الوطيدة بكبار الكتاب والصحفيين كثيرا وجعلتها أكثر وعيا، كثيرا ما كان يقيم الكاتب الصحفى مصطفى أمين صالونات وحفلات أدبية فى منزله وكانت شادية أحد ضيوفها الدائمين، من هنا بدأت تتمرد على أدوار الفتاة الرومانسية أو البريئة المقهورة أو تلك التى يخذلها حبيبها وحققت نقلة حقيقية مع فيلم «المرأة المجهولة» إخراج محمود ذوالفقار، وهو الدور الذى حمل الكثير من الجرأة والتحدى فكيف لشادية رمز الأنوثة والدلع أن تظهر فى دور امرأة عجوز، تحاكم فى جريمة قتل لكى تحافظ على ابنها الذى جسده شكرى سرحان. وعن شغفها بالتمثيل قالت النجمة الكبيرة فى احدى حواراتها القديمة : اعتقد أننى أحببت التمثيل أكثر من حبى للغناء لأننى فى فترة ضحيت بالغناء وكنت أريد عمل حفلات لكنى وجدتها مش حلوة فى ذلك الوقت وفعلا ظللت أربع سنوات متوقفة عن الغناء إلى أن أعادنى بليغ حمدى بأغنية «يا أسمرانى اللون». وكلامها هذا خير دليل على أنها قامت بانطلاقة فعلية فى عالم الأداء وذلك عن طريق تقديم أدوار تحسب لها فى تاريخها الفنى، مؤكدة أنها ممثلة من طراز رفيع وليست مجرد مطربة دخلت إلى السينما من باب الغناء وأدركت أن النقلة يجب أن تكون تدريجية حتى لا تخسر جمهورها الذى أحبها فى الأدوار الخفيفة حيث قدمت، «بائعة الخبز» 1953 أمام زكى رستم وأمينة رزق وإخراج حسن الإمام و«موعد مع الحياة» 1954 أمام حسين رياض وإخراج عز الدين ذوالفقار، و«ليلة من عمرى» 1955 أمام عماد حمدى وإخراج عاطف سالم، و«وداع فى الفجر» 1956 مع كمال الشناوى وإخراج حسن الإمام إضافة إلى فيلميها مع عبد الحليم حافظ «لحن الوفاء» 1955، إخراج إبراهيم عمارة، و«ودليلة» 1956، إخراج محمد كريم. ووصلت إلى قمة النضج فى الأعمال المأخوذة عن روايات الأديب العالمى نجيب محفوظ، منها «زقاق المدق»، وقدمت من خلاله دور «حميدة». وتدور أحداث العمل عن زقاق من أزقة منطقة الحسين تسكنه مجموعة من الأشخاص تربطهم علاقات الجيرة والقرابة، وكانت حميدة فتاة يتيمة طامحة إلى حياة أخرى أكثر تحررا ورفاهية، وتتم خطبتها لحلاق الزقاق عباس الحلو الذى يقرر السفر إلى معسكر الإنجليز ليحصل على مال أكثر يكفى به احتياجات حبيبته حميدة، وبعد سفره يقوم قواد محترف بإغواء حميدة، وبعد تورطها تنغمس فى حياتها الجديدة وتنسى عباس وأهل الزقاق .. شادية برعت فى رسم الشخصية وتحولاتها النفسية والصراع الداخلى الذى تعيشه وهو ما أجادته تماما عندما قدمت شخصية «كريمة» فى فيلم «الطريق» تلك المرأة التى تعانى جوعا جنسيا وعاطفيا بسبب زواجها من رجل عجوز.. وزهرة فى «ميرامار» الفلاحة التى تركت قريتها وراءها،لأن أهلها أرادوا تزويجها من رجل عجوز لأجل ماله، حيث تأتى المصادفة بها إلى بنسيون «ميرامار» لتخدم مجموعة من الرجال ينتمون إلى جيلين مختلفين ومشارب سياسية واجتماعية مختلفة. وستظل شادية فريدة فيما قدمته على مدار حياتها الفنية بدءًا من الأفلام الخفيفة أو تلك التى تحمل نضجًا فنيًا كبيرًا وأثبتت من خلالها أنها موهبة مخضرمة فمن منا ينسى حميدة فى «زقاق المدق»٬ فؤادة فى «شيء من الخوف»٬ زهرة فى «ميرامار»٬ كريمة فى «الطريق»، أدوار خالدة فى تاريخ الفن السابع وصلت بها إلى قمة النضج الفنى وهى الفنانة الوحيدة على مستوى العالم التى نجحت كممثلة دون أن تغنى، ونجحت كمطربة دون أن تمثل.