تناولت في مقال سابق مؤشرات وعلامات الصدام بين الرئيس والمحكمة الدستورية. وفي هذا المقال أتطرق لسيناريو الصدام المتوقع. إذا كان البعض يقف عند علم الظاهر فإنه لن يصل إلا للشيء الذي رآه طافيا علي السطح, لكن الأعمال كما هي بخواتيمها, فهي أيضا ببواطنها. وبواطن الخلاف بين الرئيس محمد مرسي والمحكمة الدستورية تختلف عن الأمور الظاهرة التي بدت لنا, فلا الرئيس كان يريد عودة مجلس الشعب, ولا هو يريد انتزاع حق التشريع, ولا هو يرغب في الصدام مع المجلس العسكري, لكنه يرغب في الصدام مع المحكمة الدستورية وليست الرغبة في الصدام مع المحكمة الدستورية لأنها في رأيه محكمة الفلول أو أنها محكمة تمثل نظام مبارك إذ أنه يعلم أن هذا الكلام غير صحيح بالمرة. لماذا إذن الرغبة في الصدام؟ لنعد إلي الوراء قليلا, حين قام الرئيس الأسبق أنور السادات لأسباب ليس هنا مجال ذكرها بتعديل المادة الثانية من الدستور المصري فجعلها(... ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) آنذاك كانت مطالب الحركة الإسلامية وضغوطها أن تكون صياغة المادة هي( الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع) وحين رفض السادات ذلك خفف رموز الحركة الإسلامية مطالبهم إلي جعل المادة( الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي..) بحسب أن الأساسي تعني أن الشريعة الإسلامية هي أساس كل شيء, ولغة تختلف مضامين الأساسي عن الرئيسي, فرفض أيضا السادات هذه المطالب, وخرجت المادة علي صيغة(.. مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي..). وفي هذه الفترة الملتهبة من تاريخ مصر كانت المحكمة الدستورية قد نشأت وبدأت عملها, وكان أن اعتنقت المحكمة رأيا بخصوص تفسير كلمة مبادئ الشريعة, هذا الرأي هو أن المبادئ في هذا الصدد تعني الكليات التي لا خلاف عليها لأنها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة. أما النصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة فرأت أنها تخرج من نطاق التطبيق, لم ترق هذه الأحكام للإخوان المسلمين لأنها كنت ترغب في التوسع في تفسير كلمة مبادئ لتجعلها تشمل النصوص الظنية. ورغم هذا الخلاف إلا أن الإخوان وكل قوي المعارضة وضعوا المحكمة الدستورية في مكانة عالية بسبب أنها انتصرت في عشرات الأحكام للحريات والمساواة والعدالة, فقضت بعدم دستورية عشرات القوانين لأنها خالفت تلك القواعد التي هي من مقاصد الشريعة رغم أن هذه القوانين التي أطلقت عليها المعارضة قوانين سيئة السمعة كان مبارك حريصا عليها لأنها تساعده علي إحكام سيطرته علي البلاد. توالت أحكام الدستورية التي أكدت فيها مبدأها الذي اعتنقته, المبادئ هي الكليات الثابتة يقينا, أما النصوص الظنية فنحن أصحاب الحق في الاجتهاد فيها, وعندما أسقط في يد الإخوان وأيقنوا أنهم لن يستطيعوا اختراق المحكمة الدستورية وإقناعها بالعدول عن رأيها وأنا أحدثكم عما عرفته عن طريق المعايشة والمشاركة بدأت تداعبهم فكرة أنهم إذا دانت لهم مصر وحكموها فلابد أن يتم تغيير نظام المحكمة الدستورية لتتفق مع رأيهم, وبعد سنوات من استقرار هذه الفكرة في ضمير قادة الجماعة كتبوا قبل الثورة بسنوات برنامجا لحزب افتراضي وضعوا فيه تصورا لهيئة دينية تشكل من علماء الدين يكون لها الحق في الرقابة علي القوانين التي تخرج من البرلمان, لتوافق عليها إذا كانت متفقة مع أحكام الشريعة أو ترفضها إذا خالفت, أما دور المحكمة الدستورية فسيكون الرقابة علي القوانين فيما يتعلق بباقي مواد الدستور. اعترض المجتمع المدني كله وقتها علي هذا التصور لأن من شأن هيئة العلماء أن تجعل من مصر دولة دينية بالمفهوم الثيوقراطي القديم, فادعي الإخوان أنهم سيحذفون هذه المادة من برنامج حزبهم الافتراضي, وبعد أن قامت الثورة أنشأ الإخوان حزبهم الحقيقي وعندما أراد المهندس خيرت الشاطر خوض انتخابات الرئاسة ذهب إلي الهيئات السلفية وأكد لهم أنه حين يصل للحكم سينشأ هيئة علماء يكون من رجالها علماء السلفيين والإخوان وسيطلق عليها هيئة أهل الحل والعقد وستقوم بدور رقابي علي القوانين لتجيزها إن كانت متفقة مع تفصيلات الشريعة أو تمنعها إذا خالفت, وكان ظن البعض أن المهندس خيرت يريد إرضاء السلفيين ليكتسب أصواتهم في حين أنه كان يعبر عن قناعة راسخة في ضمير الجماعة, ولأن الإخوان يجيدون تقسيم طرف الحبل إلي عدة أطراف فقد قدموا في ذات الوقت مشروع قانون في مجلس الشعب لتعديل بعض أحكام قانون المحكمة الدستورية ليسهل عليهم تغيير تركيبة المحكمة وإدخال عدد من قضاتهم فيها, ووافقت لجنة الاقتراحات والشكاوي علي القانون إلا أن مسيرة هذا القانون توقفت, وكانت فرصة للإخوان حين قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون انتخابات البرلمان وما يترتب عليه من آثار وأهمها حل المجلس, إذ أن هذا الحكم سيجعل للإخوان فرصة للاصطدام بالمحكمة وجر شكلها وبدأ جر الشكل عندما أصدر الرئيس قرارا بعودة مجلس الشعب, وكان لقراره مآرب أخري, منها أن ينعقد البرلمان ولو لربع ساعة فقط فيحيل قانون الجمعية التأسيسية للرئيس ليصدق عليه, فتنجو الجمعية التأسيسية للدستور ويكون من شأنها أن تصيغ المواد التي تضمن بقاء الإخوان علي سدة الحكم وتنفيذ رؤيتهم للشريعة الإسلامية, وتبدأ المعركة, الأخ محامي الرئيس ناصر الحافي يقف في المحكمة متدخلا عن نفسه ليشتم المحكمة ويجر شكلها ويتهمها بالتزوير, كان هذا الأمر متعمدا لتضطر المحكمة درءا للشبهات أن تقدم بلاغا ضد هذا الأخ, فيقوم فريق الإخوان كله, نواب علي محامين بتقديم بلاغ ضد الدستورية بزعم أنها ارتكبت جريمة التزوير وتصبح المعركة مرئية علي الهواء, تتحرك الآلة الإعلامية الإخوانية, فتصبح المحكمة الدستورية فلول, ومزورة, وفاسدة ومن شأن ذلك أن تخرج في أيام قادمات مطالب ثورية بتغيير قضاة المحكمة الدستورية وتعديل تشكيلها حتي تصبح معبرة عن الثورة. الحقيقة إن هذا لو تم فستكون المحكمة الدستورية هي المحكمة المعبرة عن الحاكم الجديد وجماعته وستتوسع المحكمة الجديدة في تفسير كلمة مبادئ, لأن القوي المدنية لن تمكنهم من جعلها أحكام في الدستور الجديد. وقتها سيكون أحد أطراف الحبل وهو الدستور في يد القوي المدنية, لكن الطرف الآخر وهو المحكمة الدستورية سيكون مع الإخوان, فاكتبوا الدستور كما تحبون لكن تطبيق الدستور سيكون في يد الإخوان, للدستور شأنه وللمحكمة الدستورية شأنها, لكن ما هو سر الخلاف الذي يضمرونه ويضرمونه ضد القضاء الإداري, مع أنه لولا القضاء الإداري لماتت جماعة الإخوان منذ زمن.