التطور لا يحدث إلا فى اتجاه المستقبل والتنبؤ لا ينشغل بغير المستقبل. المستقبل إذن هو المشترك بين التطور والتنبؤ. ومع ذلك فثمة إشكالية كامنة فى هذه الصياغة وفى الإمكان صياغتها على هيئة سؤال: هل فى إمكاننا قراءة المستقبل من غير أن يكون مسجلاً فى التاريخ؟ ومع ذلك فإن هذه الصياغة ذاتها رغم دقتها إلا إنها تنطوى على تناقض وهو أن التاريخ ذاته لا يعنيه إلا الماضي. قد توحى هذه الصياغة بأن يكون الجواب بالسلب وإذا كان ذلك كذلك فالنتيجة اللازمة تكمن فى عدم المضى فى كتابة هذا المقال. ولكن ماذا لو كان الجواب بالايجاب؟ إنه يعني، فى هذه الحالة، أن يكون لدينا مؤرخ للمستقبل على غرار ما لدينا حتى الآن من مؤرخ للماضى. والذى دفعنى إلى إثارة هذا الذى أثرته هو قراءاتى أكثر من كتاب يدلل على صحة هذه الإثارة. فثمة كتاب عنوانه «مستقبل مؤسس على ايمان» (2012). وقد جاء فيه أن الاصلاح الدينى لن يكون ممكناً إذا كانت نقطة بدايته الترحال من الحاضر إلى ماض يقال عنه إنه العصر الذهبى من أجل إعادة تجسيده فى الحاضر. ومغزى هذا الشرط أن الاصلاح الدينى مرهون برؤية مستقبلية وليس برؤية ماضوية. وثمة كتاب آخر عنوانه الرئيسى «تاريخ موجز للمستقبل» وعنوانه الفرعى «جذور الانترنت». جاء فيه أن الانترنت مفتوحة على المستقبل. ويترتب على ذلك بزوغ سوق حرة خاصة بتداول الأفكار المبدعة الأمر الذى يلزم منه انهيار مؤسسة المحرمات الثقافية فى مواجهة ثورة معلومات بقيادة «الانترنت» التى يقال عنها إنها مستقبل الاقتصاد. ومن هنا صُك مصطلح homo internetus أى الإنسان الانترنيتى الذى هو تطوير لمصطلح homo sapiens أى الإنسان الحكيم. وإذا طلبت مزيداً من الإيضاح عن مصطلح «الانترنت» فجوابى أنها شبكة كوكبية مكونة من شبكات كومبيوترية. والمعنى الموجز أنها آلة كوكبية، وقد ترتب على ذلك أننى صككت مصطلحاً جديداً هو homo globus أى الإنسان الكوكبى المؤلف من كائن حى هو الإنسان وكائن جامد هو الكومبيوتر، وهو تطوير للإنسان الانترنيتي. وقد استندت فى تصور هذا التطور إلى العالم الأمريكى نوربرت وينر الذى التحق ب «معهد ماساشوستش للتكنولوجيا» MIT. عقد فيه ندوات على مدى عشر سنوات وكان موضوعها المحورى الاتصالات فى الإنسان والالآت. وفى النهاية اكتشف تماثلاً بين ما تقوم به الآلة من تحكم وضبط وبين ما يقوم به الجهاز العصبى للإنسان، كما اكتشف العلاقة بين الهندسة والبيولوجيا. وفى عام 1948 أصدر كتابا عن علم جديد أحدث ثورة علمية عنوانه «السيبرنطيقا: التحكم والاتصال فى الحيوان والآلة». وهذه الثورة تكمن فى أن أخصب مجالات تقدم العلوم هى مجالات العلوم البينية وفيها تنشط القدرات الإبداعية. إلا أن هذه الثورة لم تكن ميسورة الفهم لأنها مشحونة بمعادلات رياضية الأمر الذى تمتنع معه عملية الفهم. ومن هنا أصدر موجزا شعبيا فى عام 1950 عنوانه الرئيسى «الاستعمال البشرى للكائنات البشرية» وعنوانه الفرعى «السيبرنطيقا والمجتمع». لفت فيه الانتباه إلى أن التحكم والاتصال هما وسيلتنا فى محاربة ميل الطبيعة إلى تفكيك ما هو منظم وتدمير ما له معني، أى فى منع الطبيعة من أن تصاب بالانحراف. وفى هذا السياق أردت أن أدفع العلوم البينية إلى الوحدة فعقدت مؤتمراً فلسفياً دولياً تحت عنوان « وحدة المعرفة». وقال السير الفريد اير فى الجلسة الافتتاحية «منذ خمسين عاماً كنا ننافش وحدة العلم فى حلقة فيينا أما البروفيسير وهبه فقد ذهب إلى أبعد من ذلك إذ يريد مناقشة وحدة المعرفة». وكنت أود مواصلة السير فى هذا المسار لولا أن الرئيس السادات أصدر قراراً بفصلى من الجامعة بدعوى أننى أخطر أستاذ على النظام فى الجامعات المصرية. ومع ذلك لم تختف وحدة المعرفة إذ صدر كتاب فى عام 2016 تحت عنوان رئيسى «صعود الآلات» وعنوان فرعى «التاريخ المفقود من علم السيبرنطيقا» لمفكر انجليزى اسمه توماس رِد يتحدث فيه عن وينر وعن رؤيته المستقبلية فى شأن التداخل بين الآلة والانسان استناداً إلى أن المشترك بينهما هو التحكم فى البيئة لأن من شأن هذا التحكم منع حدوث النتوء لأن النتوء يشير إلى بزوغ الفوضى مع منع المعلومات. ومن هنا كانت فكرته المحورية لعلمه الجديد «الضبط» من أجل التحكم فى رؤية المسار القادم لذلك التداخل والذى أطلق عليه وينر مصطلح «الكائن الحى السيبرنطيقى» الذى يعنى خلق آلات حية قادرة على التفكير والتطور، ومن ثم أمكن الحديث عن الآلة بمصطلحات من علم الحياة والحديث عن الكائن الحى بمصطلحات من علم الميكانيكا. إلا أن هذا الكائن الحى السيبرنطيقى فى إمكانه اشعال الحروب ومن ثم يتحول الكومبيوتر إلى محارب وتوصف الحروب فى هذه الحالة بأنها سيبرية أى أجهزة بدون انسان. ومن هنا يكون التطور بالتنبؤ مزعجاً للانسان الكوكبى فى حربه ضد الإرهاب من حيث إن هذه الحرب لن تكون معروفة مكانياً أو زمانياً. والسؤال إذن: ما العمل؟ لن يتبق سوى تغيير الذهنية الأصولية تغييراً جذرياً بحيث نسهم بعد تغييرها فى تدعيم الثورة السيبرية ومشتقاتها وفى مقدمها «التأثير السيبرى» وهو عنوان لكتاب صدر فى هذا العام لعالمة نفسية اسمها مارى أيكن مهمومة بتغيير السلوك لأن سلوك البشر مع تكنولوجيا جديدة مغايرة تماماً لسلوكهم مع العالم الذى يعيشون فيه يحدث تأثيراً معادلاً للتأثير الناشئ من الطاقة المنبثقة عن انفجار القنبلة الذرية التى اُلقيت على هيروشيما. أظن أن هذا المقال لتدريب العقل على التطور. لمزيد من مقالات مراد وهبة;