من يتابعه سيعرف أنه أديب حذر يحسب خطواته جيدا.. وناقد جسور لا يتورع أن يهاجم أى عمل يراه هزيلا! يكتب القصة والرواية بتؤدة، وبمراعاة للاشتراطات الفنية، لذا يبدو إبداعه أقل من طموحه بكثير! بينما تبدو تناولاته النقدية غزيرة، ودؤوبة، وتلاحق إبداعات الأدباء العرب والمصريين بحرص ويقظة. وهذا يصنع له إشكالين دائمين!! فالناقد بداخله لا يترك المبدع فى حاله، بل يشاكسه، ويذكره عادة بالمعايير الفنية فى أثناء الكتابة وبعدها، فيحيل حالة الإبداع إلى مشقة متكررة. والإشكال الثانى هو عدم تقبل الناس لصراحته النقدية فى أغلب الأحوال، واعتبارها هجوما شخصيا، ما يفسد عليه بعض الصداقات. والعجيب أنه يصر بصرامة على عدم المجاملة فى النقد، حتى لو اعتبره الناس صداميا. هل يمثل النقد عائقا أحيانا للمبدع أم يضيف لمستواه الأدبي؟ المبدع الذى يتعاطى النقد، أو ما يمكن أن نُطلق عليه المبدع الناقد، يكون صاحب ذائقة خاصة تختلف عن غيره من المبدعين؛ لأن مستوى وعيه بعملية الكتابة، وما يجب أن تكون عليه، وقدرتها على التغيير فى أنماطها وأشكالها، أى قدرتها على التجريب والتجديد والتحليق، والتشكل، والمزج بين العديد من الفنون الإبداعية، كل هذا يجعله صاحب اتجاه خاص فى الكتابة. صحيح أن النقد لا يمثل له عائقا على المستوى النظري؛ نتيجة وعيه، لكنه من الناحية العملية يكون بمثابة الكابح الذى يجعل المبدع كثير التردد، أو فلنقل غير راض عن الكثير مما يكتبه؛ وبالتالى كلما كتب شيئا وأعاد قراءته يؤكد لنفسه أن هناك أفضل، وأن ما قام بصياغته فنيا أقل مما يجب؛ ثم يعاود كتابته، أى أن العالم الذى صاغه وبناه فى شكل فنى يكون من السهل عليه جدا أن يهدمه تماما وكأنه لم يكن ليظل أمام أوراقه يُعيد تشكيل العالم فيها غير مرة. وهنا يرى البعض ممن يرون أن المبدع لا يكون مبدعا إلا من خلال التراكم أن النقد داخل المبدع عائق حقيقى للإبداع، بينما النظرة الأعمق للعملية الإبداعية ممن يرى أن الإبداع نوعى وليس تراكميا ترى أن النقد داخل المبدع أكثر فائدة للإبداع وأكثر عمقا مما لو كان المبدع لا يفهم فى النقد؛ وبالتالى يُضيف الكثير من التجربة النوعية لعمله الأدبي. لكن، هذا الكلام لا يمكن أخذه على إطلاقه؛ صحيح أن الكيف هو الأبقى وأهم من الكم، وهناك العديد من الروائيين الخالدين فى الثقافة العربية والعالمية الذين لم تتعد أعمالهم أكثر من رواية أو روايتين، ما يُدلل على أهمية الكيف مقابل الكم، لكن الناقد داخل المبدع يجعله كثير الهدم، كثير التشكك، قليل الرضا مما يُقلل من أعماله الإبداعية، لكن هذه القلة تكون فى صالح العمل الإبداعى بنهاية الأمر؛ فهناك كثيرون من المبدعين الذين تميزوا بالغزارة فى الإنتاج فى حين أن إبداعهم الحقيقى الذى يمكن أن يُعتد به لا يتعدى ثلث ما أنتجوه. على ضوء كلامك هذا.. متى يكون النقد عبئا على المبدع وأعماله؟ فى حال زيادة الوعى أكثر مما ينبغى لدى المبدع، ربما يتوقف عن الإبداع؛ فإما يصاب بسكتة إبداعية حقيقية، والمقصود بالإبداع هنا هو الكتابة الروائية والقصصية، أو يكون نادر الإنتاج، وفى الحالة الأخيرة نلمح الصنعة والتكلف وافتقاد البساطة والتلقائية؛ لأنه حينما أخرج إبداعه فى حالته الأخيرة أخرجه بينما عينه على النقد وما يجب أن يكون، ولم تكن عينه على الإبداع الذى يتشابه مع الحياة بكل مفرداتها من عفوية، وأخطاء، وصُدف، وإعادة تجريب، وتعديل للمسار. إذن فالنقد هنا داخل المبدع يمثل عائقا كبيرا وحقيقيا للإبداع؛ لأن الناقد تكون ملاحظته ووعيه بالعملية الإبداعية أكثر عمقا واتساعا وإدراكا من المبدع نفسه. الفارق بين الاثنين هو أن الناقد يُعمل نظرته العقلانية الخاضعة لمنطقية الأمور، بينما المبدع لا يعتمد على هذه النظرة بقدر اعتماده على مشاعره وجنونه وانفلاته، وجموحه، ولنقل شهواته أيضا، وأحلامه، ورغباته، وشطحاته ما يتقبلها العقل، وما لا يمكن أن يتقبله منها. فهناك طرفا نقيض يتجاذبان الناقد والمبدع. هنا لابد أن يكون الغلبة لأحدهما على الآخر، وكما قلت إذا زاد مستوى الوعى داخل المبدع سيكون لصالح الناقد على حساب الإبداع، والعكس صحيح بالضرورة، وليس معنى ما قلته أن المبدع لابد أن يكون مستوى وعيه منحطا أو قليلا، فالوعى المقصود هنا هو الوعى الخاص بالعملية الإبداعية والنقدية، أى ما يجب أن يكون عليه الإبداع. هل يعنى هذا أن الكاتب بحاجة لمستوى ثقافى موسوعى بتقديرك؟ لابد من الاتفاق على أن المبدع يجب أن يكون مثقفا؛ لأنه مهماتكن درجة موهبته، ولا يقرأ، ولا يحاول التقدم ثقافيا، سيمثل هذا بالنسبة له حجر عثرة كبير لإبداعه، وستكون هناك فجوات فى العملية الإبداعية ذاتها لا يدركها هذا المبدع؛ فيقع فى عدد لا يحصى من الأخطاء التى تؤدى إلى سقوط عمله الإبداعي، لكن الثقافة العميقة بشكل كبير هى خطوة شديدة الخطورة بالفعل بالنسبة للمبدع؛ لأنها ستكون أيضا حجر عثرة ثانيا أمامه فى كتابته، وكم من مبدعين مثقفين رأينا أنهم يحاولون حشو أعمالهم الإبداعية بمعارفهم الواسعة فى شتى المجالات، أو يحاولون استعراض هذه المعارف من خلال أعمالهم الإبداعية، وهذا الاستعراض الثقافى فى حقيقته يُمثل عبئا لا يمكن أن تحتمله العملية الإبداعية، سواء كانت هذه المعارف أيديولوجية، كما رأينا فى رواية «الطلياني» للروائى التونسى شكرى المبخوت والتى جاءت مثقلة بالأيديولوجيا، أو المعارف الفلسفية مما يؤدى بالمبدع إلى الإغراق فى التهويمات التى لا معنى لها، والتى لا يمكن أن يفهمها سواه، أو غير ذلك، ولكن إذا رأينا أن الثقافة العميقة تكون معطلا للإبداع وتمثل بالفعل خطورة على العملية الإبداعية، فهناك الجانب الآخر وهو المبدع الذى لا يقرأ أو غير المُحمل بالقدر الكافى من الثقافة، وهذا النموذج نراه اليوم بوفرة لا يمكن احتمالها مما يؤدى إلى تسطيح العملية الإبداعية تماما ودفعها باتجاه السذاجة، والمراهقة، واللامعني، والثرثرة، بل والأخطاء الفادحة نتيجة سطحية ثقافته، واعتماده على شبكة المعلومات الإلكترونية التى تغص بالمعلومات المغلوطة، ولعلنا نرى اليوم سيلا لا ينتهى من الروايات التى لا معنى لها، ولا قيمة بسبب جهل الكاتب الذى لا تعنيه الثقافة أو العمل على الاهتمام بها. إذن فليس مطلوبا من المبدع أن يكون علاّمة عصره فى المعارف والثقافة، لكن المطلوب منه أن يكون على قدر يسير من هذه الثقافة على الأقل فى مجاله الإبداعي. كيف يمكن إذن فض الاشتباك بين المبدع والناقد داخل الكاتب الواحد، وكيف يمكنه استثمار تجاورهما هذا؟ فض الاشتباك بينهما من الأمور التى لا يمكن أن تتحقق بسهولة؛ فالشخص هنا يكون على طرفى نقيض كل منهما يجذبه إلى منطقته ويستولى عليه. هناك ناقد مبدع يعتمد على أمور عقلية ومنطقية تماما، يقابله مبدع مجنون لا يمكن أن يخضع لأى منطقية بل للشطحات والتحليق فيما لا يمكن التحليق فيه، هنا أجد أنه كلما أطلقت العنان للمبدع؛ يكبحه الناقد الذى يؤكد له أن بعض ما كتبه لا علاقة له بالعملية الإبداعية. فهناك بعض المواقف فى الأعمال الإبداعية التى تكون بحاجة للثرثرة، والثرثرة تكون مفيدة للعمل أحيانا، لكن الناقد يراها عبئا وترهلا. هنا يقف المبدع أمام الناقد عاجزا، وبالمقابل وجود كثير ما يكون مفيدا للإبداع؛ حيث يجعل المبدع على بصيرة بما يفعله، ويُعيد الكتابة أكثر من مرة بما لا يدع مجالا للثغرات فى عمله. إذن يمكن المصالحة بين الاثنين حينما أمنح الروائى فرصته كمبدع، ثم يخرج الناقدلاحقا لتهذيب ما فعله الروائي. فلكل منهما دوره ومكانه اللائق به؛ يتقدم المبدع خطوتين فى أثناء الكتابة، ثم يأتى دور الناقد لينقى العمل من الثغرات الفنية. هل كتابة النقد لديك هروب من مشقة الأدب؟ لا أنكر أن مشقة الكتابة الأدبية أكبر؛ فهى ولادة مستعصية فى كل مرة، قلق واضطراب متجدد، لكن من يستطيع القول إن الكتابة النقدية لا تحتمل نفس حالة المشقة والاستعصاء التى أواجهها حينما أكتب الأدب؟ فى كل مرة أكتب فيها مقالا نقديا جديدا أجد نفسى فى مأزق من يكتب للمرة الأولي؛ أمامى جبل ضخم يجب تفكيكه وإعادته إلى عناصره الأولي. وتواجهنى مشاكل وصعوبات مثل التى تواجهنى فى كتابة الرواية، كيف سيكون المدخل الذى يجذب القارئ إلى نهاية المقال، وكيف يكون الأسلوب رشيقا سلسلا خاليا من الترهلات. وهذا يؤكد أن النقد إبداع حقيقي. والحقيقة أننى لم أهرب من الأدب إلى النقد بسبب ما تسميه مشقة الكتابة؛ فكلاهما شاق. كما أنى لم أتوقف عن كتابة الإبداع الروائى أو القصصي؛ فلدى رواية أعمل عليها منذ عدة سنوات ومنتهية لكنها بحاجة لإعادة كتابة مرة أخري، وهى مرهقة لأنها قرابة ألف صفحة، ولدى مجموعة قصصية جاهزة أيضا. فأن تُصدر عملا إبداعيا جديدا يعنى أن تُضيف ما يستحق. هل تحتمل التناولات الصارمة لأعمالك بالطريقة ذاتها التى تتناول بها أعمال غيرك؟ أتمنى أن يخلص النقاد، ويتناولوا جميع الأعمال الإبداعية بالصرامة التى يجب أن تكون عليها العملية النقدية، فالصرامة ضرورية فى النقد، لكن هل هناك نقاد يستطيعون فعل ذلك ويخسرون علاقاتهم بالجميع؟!. لماذا تُصدر للناس إحساسا بأنك صادم، أو لديك ميل جاهز للهجوم؟ لدى فعليا ميل جاهز للهجوم على جميع الأعمال الإبداعية التافهة والفارغة، والغثّة التى يصفق لها كثيرون، وهو تزييف حقيقى للواقع الثقافى العربي. هذا التزييف لم يُسهم فيه النقاد فقط رغم أسماء بعضهم المهمة، بل أسهم فيه كثيرون بتواطؤ لا يمكن احتماله حتى فى الجوائز العربية، فتجد عملا لا يليق أن يقدمه طالب فى المرحلة الثانوية بينما يحتفى به النقاد، وأشباههم، وغيرهم من اللوبيات الضخمة والفاسدة فى ثقافتنا العربية، بل تحصل هذه الأعمال على جوائز مهمة رغم ركاكتها التى لا تُحتمل. هنا أنا لست مجرد صادم أو جاهز للهجوم فقط، أنا هنا أنفجر فى وجه الجميع لأقول لهم: كفى تسطيحا وقتلا وكذبا وتدليسا وتزييفا وتنميطا للثقافة العربية، أنا هنا أواجه منطقة عربية بالكامل معظمها يعمل على التزييف من أجل علاقاته ومصالحه ومكتسباته مهملا فى ذلك التاريخ الثقافي، والإطاحة بثقافة عربية يسعون بها إلى التنميط. أنا هنا أقوم بدور صعب، فى محاولة لإعادة الثقافة إلى مسارها الجاد والحقيقي، أعرف أنى وحيد فى مواجهة شرسة، لكنى أفعل ما يرضاه ضميري.