يكشف حادث الواحات الإرهابى الأخير عن استهداف متواتر للدولة المصرية وقلبها الصلب، فمصر التى تستعيد دورها السياسى الإقليمى الآن، فتعقد اتفاق المصالحة بين حركتى فتح وحماس، وتعقد أيضا اتفاقا بين بعض الفصائل السورية لوقف إطلاق النار فى جنوبدمشق، وتسعى صوب تطلعات تنموية فى المستقبل القريب، معتمدة على عمل دءوب، ولغة لا تعرف المستحيل، تمثل حجر عثرة أمام مخططات الإرهاب اللعين بمموليه ومنظريه، حيث يقدم الإرهاب نفسه بوصفه وحشا خرافيا هائلا قادرا على تحطيم الكل، ويمده ممولوه بالمال والسلاح، ويتفانى منظرو التطرف فى منحه غطاء فكريا، معتمدين على تصورات معرفية آن الأوان لكشف زيفها وقبحها اللانهائي. ثمة مشكلة حقيقية فى تعاطى العالم مع ظاهرة الإرهاب، حيث تغض بعض القوى الكبرى الطرف عن تغول الإرهاب فى بلدان عديدة، حتى طالتها يد الإرهاب الآثمة، وبدلا من أن تتقاسم إرث مجابهة التخلف العام مع غيرها، نراها تتحرك وفق مصالحها الخاصة، وتكتفى فى أكثر المواقف دعما بالتنديد والإدانة، فليس ثمة رغبة حقيقية فى المواجهة ولا فى مساندة الدول التى تقف بحزم ضد محاولات المتطرفين والإرهابيين للسيطرة على الفضاء العام، ومن ثم يبدو سقوط ورقة التوت نزعا للبراءة المصطنعة حول كونية العالم وإنسانيته المفرطة والخطابات الناعمة التى تقدمها بعض القوى الكبرى ولا تعدو أكثر من كونها جملا لحفظ ماء الوجه الإنسانى والثقافي، فالحقيقة التى تؤكدها الممارسة الحياتية قبل أن يؤسسها العقل والمنطق أن من يرى أن ماضى السلف أعظم من أى شيء، سيسعى دائما لاستحضار هذا الماضى والتعامل معه بوصفه ملاذا آمنا له، ومن ثم ستطيش الأجوبة المنطقية فى عالم افتقد للمنطق فى اللحظة ذاتها التى قرر فيها أن ينتمى إلى القرون الوسطي. تواجه الدولة المصرية بقلبها الصلب من قواتها المسلحة والشرطية الإرهاب ببسالة نادرة، لكن ثمة حاجة إلى أن تؤدى القوة الناعمة دورها المبتغي، فتجديد العقل قبل تجديد الخطاب خطوة مركزية فى هذا السياق، فالعقل الكلاسيكى الناقل لن يطرح خطابا جديدا ولو مكث ألف عام، ومن ثم فنحن بحاجة حقيقية إلى عقل نقدى طليعي، يسائل ماضيه وواقعه فى آن، ولا يقع فى غواية التقديس للبشر والأفكار القديمة. تنمو الأفكار فى سياقات حاضنة لها، ولا تنمو فى الفراغ، والمحيط العام فى مصر والعالم العربى معبأ بصناعة الرجعية، ومن ثم تجد الجماعات الإرهابية بيئة مواتية لها لبث أفكارها من جهة، وخلق متطرفيها من جهة ثانية، فى أجواء يهيمن عليها العقل السلفى والنمط الخرافى فى رؤية العالم، ومن ثم ستجد شخصا يقتل إنسانا آخر لمخالفته له فى العقيدة، ودون أن يعرفه أو تتشكل أى صلة بينهما، فالمناخ العام مسكون بالتكفير للمخالفين وتبرير القتل للآخر بدعوى الزندقة والإفساد والكفر، وستجد فضائيات تتناقل هذه التصورات، ومواقع إخبارية تنشرها، وشيوخ رجعيين يبررون للقتل والدماء. ولكى تكتشف مصر صوتها الحقيقي، لا بد من أن تقاوم صناعة الرجعية وليس مظاهرها العلنية فحسب، فالوعى العام مكبل بقيود لا نهائية، فساحات التفكير تفتقد للابتكار، وسلطة الموروث أعلى من سلطة الواقع، وروح الماضى الشبحى تصادر روح المستقبل المأمول، وليس من سبيل سوى المراجعة المستمرة لكتلة الأفكار المستقرة فى ذهنية المجموع، بحيث يصبح الولاء للوطن مقدما على أى شيء، وتصبح القيم الفلسفية والإنسانية الكبرى من الحق والخير والجمال عنوانا عريضا على ما نريده ونحن نصوغ العقل العام، أما حشو الأدمغة بالبنى المعرفية الجاهزة التى تلغى حيز التفكير وتصادره، فستكون عين الكارثة والمشكلة فى آن. وبعد.. على الرغم من هذا الألم العارم الذى يعتصر نفوسنا نحن المصريين، فإن التضحيات التى يقدمها جنودنا البواسل كانت أقوى من الموت، وأبلغ من الرصاص، وفى قلب الملحمة لم يكن هناك سوى الشجعان، وفى متن المعركة تتواتر البطولات، ويصبح الوطن مرجعا وقبلة. ومن ثم سيبدو عصيا على فهم المزايدين، وكثير من محللى الميديا، وأذناب التحالف بين الفساد والرجعية، والمتورطين فى وحل العلاقة بين بعض القوى الكبرى وصناعة التخلف فى عالمنا العربي، أن يستوعبوا كل تلك الشجاعة التى تبديها قواتنا الباسلة فى مواجهة عصابات الكهوف والرجعية والإرهاب. تمتد سنوات الفرز فى المحروسة لتحمل عناقيد من لآليء وغضب، فمصر التى شهدت جملة من التحولات الدرامية منذ السبعينيات وحتى الآن، لم تزل بقادرة على الحلم والمقاومة، مرفوعة الرأس، عالية الجبين. وليس ذلك غريبا على وطن يسع العالم، يعتمد فى بنيته الإنسانية على جين حضارى متعدد الجذور، عابر لمكونات الهوية الضيقة، معتمدا على قيم التسامح والنبل والتقدم. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;