أغلب الظن أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقوم الآن بعكس المثل الغربي الذي يقول «تكلم بنعومة وتصرف بقسوة»، فالرجل يتحدث بقسوة شديدة إلا أن أركان ادارته يتصرفون ليس بنعومة ولكن «بقدر كبير من الحذر». وهنا فإنه علي عكس كل ما سبق أن هاجمه ترامب، وهدد به، وذلك سواء في حلف الأطلنطي أو اتفاقية المناخ أو كوريا الشمالية أو قطر أو اليونسكو وأخيرا إيران. فكل الأمور سارت بعد الكلمات العاصفة إلي «محاولة تسوية»، أو «الحصول علي مكاسب سريعة» تمكن ترامب من الادعاء بأنه استطاع «تحسين الشروط». هذه واحدة، أما الأخري فانها تتعلق بأجندة «المؤسسة العميقة في الولاياتالمتحدة والتي لانري أي عجلة أو رغبة من جانبها في تهدئة الأوضاع »، أو «حل الأزمات» بل تركها لحالها تنتقل من «سييء » إلي «أسوأ»، وعند لحظة ما اعاد الأمور من حافة الهاوية إلي «شيء من الأمل»، وبعدها «تفجير الموقف» مرة أخري، وهكذا دواليك. ويكفي أن ننظر إلي منطقة الشرق الأوسط والخليج لنري حجم «الملفات المفتوحة»، والتي تدور في هذه «الحلقة المفرغة»، سواء أفغانستان أو الصومال أو العراق، والآن سوريا. وآخر ما نشهده يتعلق بإيران، وهجوم ترامب العنيف ضد النظام الإيراني والاتفاق النووي. وأغلب الظن أن ترامب يبحث عن مكاسب سريعة، كما أن المؤسسة العميقة نفسها ليست بعيدة عن «ادارة الأمور كالمعتاد» أو مثلما يقول المثل «نفس العطر ولكن في زجاجة جديدة». فتري ما هي هذه الرسائل الجديدة القديمة والمكاسب السريعة من موجة التصعيد الأخيرة مع طهران؟. وأحسب أنها كالتالي: أولا: أمريكا لاتزال تهيمن علي العالم، ثانيا: أوروبا لا تستطيع أن تكون بديلا ولا روسيا. ثالثا: هؤلاء البدلاء سيحاولون «اقناع طهران» بتقديم «تنازلات» في محاولة لتهدئة «الرئيس الجامح» و «الكونجرس الغاضب». رابعا: هذه الضجة مفيدة داخليا قبل انتخابات الكونجرس المقبلة، فإذا لم يكن بمقدور ترامب وقادة حزبه الجمهوري تحقيق بعض الانتصارات السريعة في الأجندة الداخلية قانون التأمين الصحي فليس هناك ما يمنع من تسجيل بعض النقاط في منطقة الشرق الأوسط، أو كوريا الشمالية. خامسا: إحداث جلبة ترضي الحلفاء العرب وإسرائيل.. فمن ناحية التأكيد أن «الخليج العربي» وليس «الخليج الفارسي» هو ما يهم إدارة ترامب،، والاعلان عن فرض عقوبات علي «الحرس الثوري الإيراني». وبعدما كان ترامب قد وصف «الحرس الثوري» أن منظمة إرهابية، فقد عادت الخارجية لتؤكد أنها لن تضع «الحرس الثوري» في قائمة المنظمات الإرهابية. أما فيما يتعلق بإسرائيل فإنه لوح ومازال يلوح بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وتري حكومة نيتانياهو أن ترامب يتفق معها في أن «الاتفاق» هو الأسوأ. سادسا: إن خلق «مناخ التصعيد» يوفر بيئة ملائمة لواشنطن لبيع مزيد من الأسلحة، واقناع الحلفاء والشركاء بضخ مزيد من الاستثمارات في الولاياتالمتحدة. سابعا: إجبار طهران علي تقديم تنازلات أو محاولة التماشي مع «المظهر العام» بأنها تبذل جهدا للتفاهم مع واشنطن، وذلك سواء في القضايا الاقليمية، أو مسألة تطوير الصواريخ، أو ترك محاولة ترامب الجديدة لتجربة حظه في عملية تسوية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أو فك الارتباط ما بين إيرانوكوريا الشمالية، أو دق اسفين في علاقات طهران وموسكو وبقية تحالف الممانعة؟.! وأحسب أن هذه الأهداف السبعة يمكن لإدارة ترامب والمؤسسة العميقة أن تنجح في احراز بعض منها، وإن كان بدرجات متفاوتة. إلا أن واشنطن من خلال كل اللاعبين سوف تملأ الدنيا صراخا فيما يتعلق بالاستراتيجية الجديدة لاحتواء إيران. ونسب للكاتب الأمريكي الشهير ديفيد إغناتيوس إلي مسئول كبير تأكيده أن واشنطن تعتزم «اتخاذ خطوات معينة لاحتواء إيران في اليمن، ولبنان، والخليج العربي». وقال إغناتيوس في مقالته بصحيفة واشنطن بوست تحت عنوان «الاستراتيجية الجديدة ومحاولة احتواء المد الإيراني» إن الحلفاء الأوروبيين يعملون معنا بالفعل في كبح الجماح الايراني. ومن هنا يتضح لنا أن واشنطن لن تنسحب من الاتفاق النووي، ولم تذهب بعيدا في وضع «الحرس الثوري الإيراني» علي قائمة المنظمات الإرهابية. وإنما وضعت أربعة كيانات من الحرس الثوري في مقدمتها «فيلق القدس» ذراعه الخارجية علي قائمة العقوبات. وهنا يثور التساؤل بشأن جدية واشنطن في «احتواء إيران»، وخاصة في ظل وجود شبه إجماع علي المستوي الدولي من أن عملية فرض عقوبات ضد الدول لتغيير «سلوكها وسياساتها» لم تنجح سواء مع كوريا الشمالية أو إيران ذاتها. ويقول الخبراء إن هناك «سوقا سوداء «تساعد الدول المحاصرة في الحصول سرا علي ما لا تستطيع الحصول عليه علنا، وهنا فإن المثال الأبرز هو دولة داعش الإرهابية، وقدرتها علي بيع النفط، والآثار المنهوبة، وغيرها من الأمور تعطي مثالا واضحا علي عدم فعالية «هذه العقوبات». بل أن هناك تقارير غربية تتحدث عن تورط شخصيات مهمة في تركيا في شراء النفط من داعش بأسعار رخيصة، وكذلك إسرائيل، وشبكة من «المصالح التجارية» لشخصيات تركية نافذة مع أكراد العراق، وخاصة مسعود برازاني، وأيضا مصالح مع طهران أثناء فترة حصارها!. وبالرغم من ذلك كله فإن واشنطن لن تمل من الاعلان صراحة عن جهودها لممارسة الضغوط الشديدة علي وكلاء إيران في المنطقة، إلا أن ديفيد إغناتيوس القريب من المؤسسة الأمريكية العميقة يقول صراحة «غير أن طهران في وضع يمكنها من الرد المباشر، وبطرق من شأنها تعريض شركاء أمريكا للخطر وعلي سبيل المثال الأكراد ، وحتي القوات الأمريكية المنتشرة هناك أيضا»؟!. ويبقي هنا الإقرار بأن شيئا مما يقوله إغناتيوس صحيح، إلا أن الشيء المثير للدهشة أن داعش الذي يقوم بعمليات إرهابية في كل مكان لم يشاهد القوات الأمريكية سواء في العراق أو سوريا. كما أنه لم يشاهد الأهداف الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه لم يحدث أي «اشتباك مباشر» حتي ولو علي سبيل الخطأ أو المصادفة ما بين القوات الأمريكيةوالإيرانية، وأغلب ما نعرفه هو أن واشنطن نسقت مع طهران ولاتزال في العراقوأفغانستان. وهناك أيضا «تفاهم محسوس» فيما يتعلق بتحرك داعش في داخل وبالقرب من القاعدة الأمريكية في التنف «السورية»، ويجري تبادل المقاتلين، ولا يعرف أين ذهب الدواعش الأجانب، ولا لماذا لم يتم الوقوف إلي جانب الأكراد. أسئلة طويلة وغامضة إلا أن شيئا واحدا ظاهرا للعيان هو أن قاسم سليماني يتحرك بحرية، وأن الأمريكيين يتحركون بحرية وكذلك الإسرائيليون، وذلك كله وسط صخب هائل حول الحرب علي الإرهاب ومحاولة احتواء إيران؟! لمزيد من مقالات محمد صابرين