هو أديب الصحفيين، وصحفي الأدباء، وسفير البلغاء، وترجمان الآداب والمعارف، وأشهر مَن كتب عن أدب المهجر وأعلام القرن العشرين، ولغوي من طراز رفيع، ومترجم قدير، ورغم ذلك كله أدارت الحياة الثقافية والصحفية والأكاديمية ظهرها له، فلم يحظ بتكريم، ولم يصدر له كتاب عن وزارة الثقافة، ولم ينل أية جائزة من جوائز الدولة. وأخيرا تنبهت له الحياة الثقافية المصرية بعد هذا العمر المديد (94عاما)، حيث استقبل اتصالا هاتفيا من وزير الثقافة يدعوه لتكريمه تقديرا لمشواره الإبداعي وجهده فى إثراء الحياة الثقافية، لكنه اعتذر نظرا لظروفه الصحية. فقرر الوزير أن يزوره فى منزله ويمنحه درع الوزارة. الأهرام كانت هناك لتسجل هذه اللحظات الإنسانية المفعمة بالمشاعر الفياضة والحب والعرفان بالجميل. وفى تصريح خاص لصفحة «ثقافة» قال الوزير «حلمى النمنم» إن الوزارة كانت تستعد لتنظيم احتفالية بالمجلس الأعلى للثقافة لتكريم الأستاذ «وديع فلسطين»، لكن حالته الصحية في الفترة الأخيرة حالت دون ذلك، لذا جئنا اليوم إلى منزله لنكرمه ونحتفي به وبإسهامه في الثقافة والصحافة منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، واحتفاء بما قدمه من ترجمات وكتب ومقالات. وأبدي وديع فلسطين سعادته بهذا التكريم الذي يأتيه من وزارة الثقافة المصرية بعد هذا التاريخ الطويل، وتحدث عن مشواره الإبداعي منذ تخرجه فى الجامعة الأمريكية عام 1942، وبداية عمله بجريدة الأهرام في قسم التوزيع لمدة ثلاث سنوات، ثم التحاقه للعمل كصحفى بجريدة المقطم، وبعد توقفها مر بفترات عصيبة، شغل خلالها عددا من الوظائف، لكنه خلال تلك الفترات لم يتوقف عن الكتابة، وكانت الترجمة هى المنقذ له طيلة هذه السنوات. وطلب منه الوزير أحد كتبه لتطبعه وزارة الثقافة، كما وعد بمتابعة حالته الصحية. لم يكن أفضل من هذه الفرصة لمحاورة الأديب والمترجم والصحفي «وديع فلسطين». ما شعورك تجاه هذا التقدير، خاصة أنها المرة الأولى التى تكرم فيها رسميا من الدولة؟ هذا فعلا أول تكريم رسمي. لكني حصلت قبل ثورة يوليو على «جائزة الملك فاروق للصحافة الشرقية»، وكانت تمنح لأحسن كاتب شاب، وقيمتها كانت خمسين جنيها، وطوال هذه السنوات لم أحصل على أية جائزة مادية أو معنوية، وما يسمى بالجوائز الأدبية أيضا، وقد رشحت ثلاث مرات لعضوية المجمع اللغوى بالقاهرة ولم أحظ بها، بينما تم انتخابي عضوا شرفيا فى مجمعي اللغة العربية فى سوريا والأردن. ما منابع ثقافتك الأولى؟ تخرجت فى قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية، وهذا القسم كان يعلمنا بجانب الصحافة اللغتين العربية والإنجليزية والفلسفة والاقتصاد، فلم يكن مقصورا فقط على الموضوعات الصحفية، وبعد تخرجي التحقت بالحياة العملية، وهناك أيضا الحصيلة الهائلة من المعلومات، ومفاتيح لكل فروع المعرفة، إلى جانب الترجمة، وكنت استغل هذه المفاتيح والمعلومات فى حياتى العملية من أجل العيش، لذا عملت بالترجمة بجانب الصحافة، وكنت متابعا جيدا لكل الجرائد والمجلات لمعرفة كل ما ينشر من أخبار. وأسلوبك فى الكتابة مميز، مع أنك لا تحب اللغة العربية رغم قولك لى في حوار سابق أنك كنت تكره اللغة العربية، فمن أين تعلمت هذا الأسلوب؟ ثقافتى انجليزية فعلا، وكنت أكره اللغة العربية بسبب مدرس المادة، ولكن بعد تخرجى وعملى بالصحافة كان لابد لى من الاهتمام بها، فبدأت أهتم بقراءة أصحاب الأساليب مثل الزيات صاحب مجلة الرسالة، وفؤاد صروف، ووداد سكاكينى فى سوريا لأنهم يكتبون بأسلوب عربى سليم، وبدأت بمحاكاتهم فيما يكتبون، وانعكس هذا على كتاباتى حتى أطلقوا على أنني من أصحاب الأساليب. من أهم كتبك «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره» فهل هو كتاب تأريخ لأولئك الأعلام؟ هذا الكتاب ثمرة ارتجال من الألف إلى الياء، فكتبت ما يقرب من ستين مقالا فى جريدة الحياة اللندنية عن هؤلاء الأعلام وما أعرفه عنهم دون أن أحاكى أحدا، فلم أكتب ببلوجرافيا لكن ركزت على ما فعله هؤلاء ومواقفهم وأعمالهم، والكتاب لم يكن تأريخا، لكنه كما يقول صديقى «نزار قبانى»: «خلاصنا فى الرسم بالكلمات» وأنا رسمت هذه الشخصيات بالكلمات، وهم أناس عرفتهم عن قرب، وأعتقد أنني نجحت إلى حد ما، واتصل بى ناشر سورى يطلب منى نشر هذه المقالات، وكان يحتفظ بها وأضفت إليها عددا من المقالات حتى وصلت مائة فى كتاب فوافقت. ترجمت العديد من كتب التراجم والاقتصاد والقانون والأدب بجانب عملك الصحفي، فهل هذا التعدد يعد ميزة للكاتب أم عيب؟ ظروفى الشخصية هى التى اضطرتني لهذا التعدد، فكنت أعمل ما يطلب منى فى أى مجال، فقمت بترجمات اقتصادية وسياسية وقانونية، بجانب الصحافة فى الأدب والسياسة والاجتماع.. إلخ. لكنى عرفت أنك لم تتلق أجرا عن أغلب هذه الأعمال.. هل هذا صحيح؟ لم أكن يوما غنيا، لكنى لم أفكر فى المال آنذاك، لأننى كنت أفكر فى الشهرة والانتشار أكثر من المال رغم احتياجي الشديد له، ومع هذا كنت أشعر بالرضا. ما رأيك في الترجمات الآن؟ الترجمة تساعد على معرفة الفنون والإبداعات الجديدة، ولدينا مترجمون أكفاء كثر، لكن هناك أيضا مترجمين تُجَّار، والحقيقة لا أتابع حركة الترجمة الآن بحكم ظروفي الصحية، لكن أنصح بعدم قراءة الكتاب المترجم ما دام فى المستطاع قراءة النص الأصلى. هل تحب تقسيم رحلتك الإبداعية إلى محطات، أم تراها خطا متصلا؟ هى محطات مختلطة وليست مستقلة، وجميعها مرتبطة بالظروف المادية، وأولها التحاقي بالجامعة الأمريكية رغم ميولى العلمية، وكنت أتمنى الالتحاق بمدرسة الصيدلة لكن صرفت نظر عنها نتيجة لمصاريفها الباهظة، والمحطة الثانية عملى في جريدة الأهرام بقسم التوزيع، وأصبحت متخصصا فيه لدرجة أنهم أطلقوا على لقب «مفتش توزيع» رغم أنى خريج قسم صحافة، والمحطة الثالثة التحاقي بجريدة المقطم كصحفي، وتعرفى على كبار باشاوات الصحافة، مما أتاح لى اتصالا واسعا بالأدباء والكتاب، فى مصر والعالم العربى والمهاجر، والمحطة الرابعة بعد تأميم الصحف بدأت العمل فى العديد من المجالات ومنها شركة «أرامكو»، وكانت تصدر مجلة بعنوان «قافلة الزيت» معنية بأخبار الشركة ونشاطها، فقمت بتحويلها إلى مجلة ثقافية متميزة، واستكتبت فيها كبار الأدباءالعرب، والمحطة الأخيرة الترجمة وكانت ملاذي الوحيد وطوق النجاة بالنسبة لى وأصبحت بفضلها كبير مترجمين فى بعض قضايا التحكيم الدولى. إذا عاد بك الزمن فماذا كنت تختار من بين تلك الأعمال؟ لو عاد بى الزمن، لاخترت العمل فى جريدة الأهرام كصحفى ولم أغادرها، فعندما تولى صديقى هيكل رئاسة التحرير أرسلت له خطابا مع مديرة مكتبه وتلميذتى «نوال المحلاوي» قلت له «أريد أن أعود إلى الأهرام للعمل بالصحافة تحت إشرافك وتوجيهك» لكن للأسف لم أتلق منه ردا.