حالة من الدهشة هى الشيء الوحيد الذى يمكن أن يصف استقبالى كمشاهد لفيلم «صناعة أمريكية» منذ أن وجدت ملصقه على باب السينما وحتى عرضت الشاشة تتر النهاية. الدهشة جاءت بداية من حالة التعتيم الغريبة أو لنقل افتقاد الشهرة التى يعيشها فيلم يلعب بطولته نجم بحجم توم كروز الذى طالما أسهم فى انتشار أفلام متوسطة وضعيفة المستوى من عينة «فانيلا سكاي» و «روك أوف إدجز» وغيرها. ............................................... ثم تفاقمت الدهشة بعدما شاهدت المستوى المميز للفيلم سواء فى الجوانب التقنية أو النواحى التى يسعى الفيلم لتوثيقها باعتباره تسجيلا لأحداث واقعية جرت فى عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى. تقنيا تميز الفيلم بأداء تمثيلى متقن لتوم كروز وباقى فريق العمل، وإخراج أكثر من متميز لدوج ليمان الذى وضحت استفادته من إخراج مسلسل مهم من قبل عن عالم الجاسوسية هو مسلسل «شئون داخلية» أو «كوفيرت أفيرز»، حيث برع فى استخدام أدواته الإخراجية من تقطيع للصورة وتحريكها مع الموسيقى والصوت لخلق حالة من الإثارة أسهمت كثيرا فى إضاعة الملل من متابعة أحداث وثائقية معروفة للجميع خصوصا فى أمريكا والغرب بشكل عام. لكن الدهشة زالت حينما علمت أن العرض الأول للفيلم فى أمريكا فى التاسع والعشرين من سبتمبر «الماضى»، كان لأسباب تجارية حسب المعلن حيث رغبت الشركة المنتجة والموزعة للفيلم فى تجنب طرح الفيلم فى الأسواق الأمريكية فى نفس وقت عرض أفلام منافسة قوية مثل «أندر وورلد.. حروب الدم» و«أميتى فيل.. الصحوة» رغم أن الفيلم الأول تأجل لأجل غير مسمى والثانى تم طرحه فى السوق الأمريكية بالفعل فى يناير الماضى ولم يحظ بنجاح لافت سواء جماهيريا أو نقديا. وإذا أضفنا لذلك أن فيلم «صناعة أمريكية» تم تصويره عام 2015 وشهد التصوير فى مدينة «مديين» حادث طائرة نتج عنه سقوط قتيلين وعدة جرحى فى واقعة غير مألوفة فى تصوير الأفلام فى هوليوود، فإن كل هذا يدفع الذهنية العربية لطرح تساؤلات «مؤامراتية» معتادة عما إذا كانت الأسباب الحقيقية لتأجيل فيلم «صناعة أمريكية» والتعتيم عليه إعلاميا إنه يفضح تورط المخابرات المركزية الأمريكية فى الكثير من الأنشطة غير القانونية واللاأخلاقية فى العقدين اللذين يتناول الفيلم أحداثهما. عموما تدور قصة فيلم «صناعة أمريكية» المأخوذ من قصة حقيقية عن بارى سيل المولود عام 1939 وهو طيار أمريكى «فلتة» كان أصغر طيار فى تاريخ شركة تى دبليو إيه الشهيرة، لكنه يتورط فى أنشطة ممنوعة مثل تهريب بعض الأشياء الصغيرة على رحلاته لتأمين نفقات حياته المترفة مع زوجته الجميلة. يكتشف ضابط فى وكالة المخابرات «سى آى إيه» قصة الطيار ويطلب منه التعاون مع الوكالة فى قيادة طائرة صغيرة والتقاط صور للثوار والحركات الثورية فى دول أمريكا الوسطى واللاتينية التى كانت فى ذلك الوقت تموج بحراك ثورى ذى صبغة شيوعية فى أغلبه، وكانت المخابرات الأمريكية تسعى لمواجهة تلك الحركات وإجهاضها. تطورت المهمة بتكليف سيل بحمل أظرف مليئة بالأموال لجنرال فى جيش بنما يدعى نورييجا (تولى حكم البلاد لاحقا وقامت واشنطن وليست أى دولة أخرى بمطاردته عام 1989 حتى أرسلت قوات عسكرية للقبض عليه من قصره الرئاسى فى بنما)، والحصول على أظرف تحمل وثائق ومعلومات. تكشف الأحداث أن كل المخالفات التى تورط فيها سيل لم تكن بعيدة عن السى آى إيه التى لم تتورع بحسب الفيلم عن التعامل مع حكام عسكريين طغاة ومجرمين مدانين ومهربى مخدرات مثلما سيظهر لاحقا ضمن الاحداث من أجل تحقيق مآربها فى دول العالم، مما ينزع القناع الأخلاقى الذى يحاول البعض إلباسه للوكالة صاحبة الباع الطويل فى التلاعب بدول العالم. فكما ذكرنا أن الوكالة تعاملت مع نورييجا العسكرى الطاغية الفاسد عن كثب ودعمته للوصول إلى سدة الحكم قبل أن تطيح به وتحاكمه بتهم القتل العمد والفساد والاختلاس، كذلك يظهر الفيلم أن الوكالة تعامت عن تعاون سيل الشره للمال مع أشهر عصابة لتجارة المخدرات فى العالم طوال عقدى الثمانينيات والتسعينيات التى عرفت «بمديين كارتل» نسبة إلى مدينة مديين فى كولومبيا، وكان بين أفراد العصابة بابلو اسكوبار أحد أشهر تجار المخدرات على مدى التاريخ. المثير أن ضابط السى آى إيه المكلف بتشغيل سيل لم يكتف فقط بغض النظر عن نشاطه فى حمل كميات هائلة من الكوكايين من مديين إلى مدن أمريكية على مدى سنوات مستخدما الطائرة التى منحتها له الوكالة، وإنما تدخل لتأمين منزل وحياة جديدة له فى أركنساس بعد أن فاحت رائحة فساده ودهمت إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية منزله فى لويزيانا. استمر سيل فى مهامه غير القانونية سواء فى خدمة المخابرات الأمريكية أو لحسابه الخاص، وتضخمت ثروته لدرجة أنه لم يعد يستطيع أن يحصى الأموال السائلة أو تخزينها بعد أن أودع عدة مئات من الملايين عدة بنوك، فكان يحتفظ بأموال فى حديقة منزله وبعضها الآخر فى اسطبل الخيول الملحق بمنزله. فى مهمة جديدة يكلف بارى سيل بنقل الأسلحة لما يعرف بثوار الكونترا فى نيكاراجوا الذين يتصدون لثوار الساندينيستا الشيوعيين الذين أطاحوا بحكم سوموزا المدعوم من أمريكا. يكتشف سيل أن الثوار المزعومين ليسوا ثوارا ولا معنيين بالحرب أو الكفاح ضد الساندينيستا كما أبلغته الوكالة، ولهذا يجرى تعديلا بسيطا على مهمته فى نقل السلاح لهم حيث ينسق مع قادة عصابة الكوكايين فى مديين على أن ينقل لهم هم الأسلحة مقابل أن يحصل منهم على كوكايين يسلمه للكونترا وهكذا، إلى أن قررت سى آى إيه إنهاء برنامج تدريب الثوار المزعومين والتخلى عن سيل للوكالات والإدارات التى تريد النيل منه مثل مكافحة المخدرات والإف بى آى وغيرها. مرة جديدة يخرج سيل من الورطة القانونية مقابل القيام بمهمة جديدة وهذه المرة للبيت الأبيض مباشرة الذى كان يحكمه وقتها الراحل رونالد ريجان، فقد طلبوا منه السفر بطائرته إلى نيكاراجوا والتقاط صور تثبت أن ثوار الساندينيستا يتعاونون مع عصابة مديين فى تهريب الكوكايين، وهو ما ينجح فيه سيل مستغلا علاقاته الوثيقة بقادة «مديين كارتل». لكن فى مشهد بالغ الدلالة يتبرع ريجان بإذاعة بعض الصور الملتقطة على التلفاز خلال مؤتمر صحفى يعقده وفيها يظهر وجه سيل بوضوح مما يؤكد تورطه فى خيانة العصابة الأخطر فى أمريكا الجنوبية وقتها، وحينما يحاول معاتبة الموظف المسئول فى البيت الأبيض يخبره الأخير بهدوء بأن ذلك كان خطأ من ريجان، دون أن يعبأ بان هذا الخطأ لم يكن له سوى ثمن واحد هو حياة الطيار المنفلت نفسه. بالفعل ترسل مديين كارتل من يقوم بتصفية بارى سيل فى سيارته عقب خروجه من تأدية عقوبة العمل الاجتماعى فى خدمة المعوزين وتنتهى حياة واحد من أخطر المهربين فى قارتى أمريكا ومعه يقوم ضباط سى آى إيه بإعدام كل ورقة أو وثيقة تخصه أو تثبت أنه كان يتعامل مع الوكالة يوما ما.