جاءت وفاة مانويل نورييجا رئيس بنما الأسبق لتغلق فصلا فى تاريخ بنما، على حد وصف الرئيس البنمى الحالى خوان فاريلا،ولتكتب سطر النهاية فى قصة رجل عقد حلفا شيطانيا مع الولاياتالمتحدة فى وقت كانت أمريكا الوسطى تعج بالاضطرابات لتنقلب واشنطن عليه بعد عقود إثر تضخم ذاته وفساده وتعتقله فى غزو لبنما يعد سابقة فى التاريخ الحديث. وقصة العلاقة بين رجل بنما القوى مانويل نورييجا والولاياتالمتحدة أشبه بالأفلام الهوليوودية الشديدة الإثارة وتعد أبرز نماذج إجادة واشنطن للعبة صناعة الحلفاء ثم التخلص منهم بدم بارد بعد ما تنتفى الحاجة اليهم. فالشاب البنمى مانويل نورييجا الذى جندته المخابرات المركزية الأمريكية (سى أى إيه) كمرشد أثناء دراسته بإحدى الأكاديميات العسكرية فى بيرو فى فترة الخمسينيات ،وبقى على قوائم رواتب السى أى إيه حتى فبراير 1988 وتلقى دورات تدريبية فى فنون التخابر فى ولاية كارولينا الشمالية ودول أخري، ظل على مدى أربعة عقود تقريبا "حليف أمريكا الأمثل" و"صديقها المؤتمن" فى أمريكا اللاتينية التى كانت قد بدأت تتشبع بالعدائية السياسية تجاه جارتها الشمالية عقب الثورة الكوبية. ومع دعم الولاياتالمتحدة لمانويل وبعد الانقلاب العسكرى فى بنما فى 1967 تدرج الرجل فى صفوف القوات المسلحة البنمية إلى أن تولى رئاسة المخابرات العسكرية وأصبح الذراع اليمنى للجنرال عمر توريجوس الحاكم العسكرى للبلاد فى ذلك الوقت.وبعد مصرع توريجوس فى حادث طائرة غامض فى 1981 استولى نورييجا على الحكم. وخلال فترة الثمانينيات قدم نورييجا خدمات وأدوارا "لا تقدر بثمن" لمساعدة الولاياتالمتحدة على بسط نفوذها فى فنائها الخلفى (أمريكا اللاتينية) حيث سمح باستغلال بلاده كمركز للتنصت على حركة الساندنيستا ذات التوجهات الشيوعية فى نيكاراجوا( قد تولى زعيمها دانييل اورتيجا الحكم فى البلاد فى 1985) ليس هذا فقط بل كان لاعبا رئيسيا فى فضيحة ايران كونترا (صفقة بيع اسلحة لايران لاستخدامها فى الحرب مع العراق واستخدام أموال الصفقة لتمويل متمردى الكونترا المناوئين للحكم الشيوعى فى نيكاراجوا).كما لعب دورا فى محاربة متمردى السلفادور. ولكن لأن "الوحش" لا يتوقف عن النمو بعد استحداثه فقد ازداد نورييجا شراسة وديكتاتورية وتحديا لكل المعايير والقوانين داخل بنما وسرعان ما تحول إلى "مصدر إحراج" للولايات المتحدة خاصة بعد اغتيال المعارض السياسى البنمى البارز هوجو سبادافورا والذى عثر عليه مفصول الرأس فى عام 1985.هذا بالاضافة إلى تزايد الشكوك داخل الولاياتالمتحدة وسط وجود مؤشرات تدل على قيام نورييجا ببيع خدماته لأجهزة مخابرات أخرى وعصابات المخدرات الكبرى فى أمريكا اللاتينية. وهنا جاءت ضرورة التخلص من "الحليف المشاكس" الذى أصبح يشكل خطرا ويهدد صورة الولاياتالمتحدة .وفى أواخر عام 1988 بدأ فصول سيناريو التخلى حيث أعلنت إحدى لجان مجلس الشيوخ الأمريكى المعنية بالارهاب والمخدرات والعمليات الدولية ان " ملحمة الجنرال نورييجا تعتبر واحدة من نماذج الفشل الخطيرة فى السياسة الخارجية الأمريكية". وبعدها أدانت المحكمة الفيدرالية فى ولاية فلوريداالأمريكية نورييجا بتهمتى الاتجار بالمخدرات والابتزاز.ورفعت السى أى ايه اسم الجنرال من كشوف رواتبها. وفى العام التالى 1989 جاء الختام المسرحى لتلك القصة المثيرة ، التى طبقت فيها واشنطن معظم المبادئ الميكيافيلية. فقد استغل الرئيس الأمريكى حينذاك جورج بوش الأب حادث مقتل جندى أمريكى فى بنما وسط سلسلة حوادث مرتبطة بالانتخابات الرئاسية فى بنما، شملت الاعتداء بالضرب على مرشحى المعارضة، للقيام بسابقة فى تاريخ العلاقات بين الدول حيث ارسل قوات أمريكية لغزو بنما والقاء القبض على نورييجا.وبرر بوش الغزو الذى أطلق عليه "عملية القضية العادلة" بأن الجنرال أصبح يشكل تهديدا وشيكا للمواطنين الأمريكيين الموجودين فى بنما (35 الفا) وان التزامه الأعلى كرئيس هو حماية أرواح الأمريكيين! وفى مشهد لا يمكن أن يحدث إلا على شاشات السينما اعتمدت القوات الأمريكية على تشغيل أغانى "روك" و"ميتال" بصوت عال جدا للضغط على نوريجا واجباره على الخروج من مقر البعثة الدبلوماسية للفاتيكان فى العاصمة بنما سيتى والتى كان قد لجأ إليها لحمايته من الغزو الأمريكي!وبالفعل خرج نورييجا وسلم نفسه للقوات الأمريكية التى حملته بالطائرة إلى ميامى، حيث تمت محاكمته وقضى عليه بالسجن لمدة اربعين عاما بتهمة غسل الأموال والاتجار بالمخدرات والابتزاز.