زمان الأبيض والأسود كان مفرطاً فى رومانسيته، مليودرامياً فى تطرفه: فالبشر إما ملائكة أو شياطين، إما فرسان نبلاء فتيان شاشة وسيمون أو أشرار خبثاء، إما فتيات جميلات مضحيات بالذات من أجل المحبوب أو الأسرة، أو نسوة ساقطات وعجائز حيزبونات.. كل هذا طبيعى فى سينما الأبيض والأسود، فالأشياء والمرئيات إما بيضاء أو سوداء. وإن كانت هذه المبالغات مزعجة أو مضحكة، فإنها كانت تعكس مجتمعاً تسيطر عليه أخلاق ومثاليات الطبقة المتوسطة التى اخترعت الأخلاق والرومانسية والمثل العليا، وسيطر ذوقها فى زمان قوتها على الشعر والأدب والسينما والأغانى العاطفية والقيم الاجتماعية والخطب الوطنية. وحين اهتزت الطبقة المتوسطة منذ منتصف السبعينيات، وفى نفس الوقت ظهرت السينما الملونة والتليفزيون الملون، شفيت السينما من الميلودراما، لكن المجتمع بدأ يعانى من أعراض انسحاب الرومانسية بتسارع مطرد، ظهر أول ما ظهر فى الأغانى ثم امتد إلى السينما والشعر والأخلاق والعلاقات الاجتماعية والمواقف والعواطف تجاه الوطن أو تجاه الجنس الآخر. واهتزت المثل بشدة مع اهتزاز الطبقة المتوسطة المتعلمة المفكرة الحالمة. وانقلب الحال، مع تراكم عقود انسحاب البساط من تحت أقدام الطبقة الوسطى، من المثالية والرومانسية المفرطة إلى السوقية المفرطة فى أغانى الحب مثلا وإلى الفجاجة التى تجعل المرء يشتهى قليلاً من ملح الرومانسية كى نبتلع وجبتنا اليومية من الحياة فى الوطن العزيز، وقد انضبط الطعم بعض الشىء. على سبيل المثال، كانت معاكسة الفتيات والتحرش بهن، فى زمن الأبيض والأسود، عادة لا تتعدى القول والاعتداء اللفظى بكلمات مثل : يا جميل.. أو يا قمر.. أما الآن ... !!!! لا تعليق. وحين أستخدم كلمة رومانسية هنا، فأنا لا أعنى المعنى الضيق المرتبط بالحب والغرام، بل الموقف العام من الحياة : الذى ينفر من الواقعية المفرطة القائمة على الأنانية وتقديس الذات وعبادة القوة وقانون الغاب، والذى يتأثر بالمثل العليا مثل الإيثار والتضحية وتبجيل الوطن وإجلال العلم والعلماء وإتقان العمل والتمسك بالشرف والأمانة والضمير.. أى الحد الأدنى من ملح المثل والأخلاق الذى يجعل للحياة طعماً. لا أقول إن كل هذا اختفى.. لكن لاشك أنه اهتز، مع وقوع الطبقة المتعلمة تحت ضغوط هائلة منذ عقود السبعينيات وحتى الآن، جعلت الكثير من أبنائها يهتز إيمانهم بالمثل التى سادت المجتمع تحت قيادتهم وقدوتهم. صحيح رحمنا الله من مليودراما أفلام الأبيض والأسود، لكننا نضبط أنفسنا أحياناً ونحن نشتهيها.. حين نستمع إلى أغانى ردح المحب للمحبوب، وكأننا فى خناقة. وإذا كانت فكرة أن الحب من غير أمل أسمى معانى الغرام فكرة سخيفة، فإن اختفاء الموسيقى من أغانى المهرجانات ظاهرة تكاد تكون مفزعة. كما أن اختفاء موسيقى الشعر من قصيدة النثر تجعلنا أحياناً نحن إليها ونفتقدها، مع الاعتراف الكامل للشعر المنثور بحق الوجود. أحن إلى العود وتقاسيم القانون، وعبارات الغزل الرقيق، وخطب مصطفى كامل الوطنية حتى وإن بالغ قليلاً حين قال : «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً».. وأحن أحياناً إلى الأفلام التى يضحى فيها البطل أو البطلة بنفسها من أجل المحبوب حتى وإن كان بعضها سخيفاً مضحكاً. قليل من ملح الرومانسية يصلح القلب والمعدة، ويجعل لوجبتنا اليومية الفنية والاجتماعية والوطنية مذاقا أشهى.. وحبذا لو تذكرنا القيمة العليا للطبقة المتوسطة فى مصر وفى كل مكان وأنها حارسة القيم ومبدعة الفنون والآداب والعلوم والمُثل والأخلاق، وأن قوتها وثباتها ورسوخها أساس قوة الوطن ورفعته ورقيه.. من أغانى الحب إلى النشيد الوطنى ودستور البلاد. لمزيد من مقالات بهاء جاهين