يبدو المشهد السياسي الذي يدور الآن في مصر ما هو إلا صراع مستتر أحيانا وعلني في أحيان أخري بين مؤسسات الدولة, علي الأدوار والمهام دون الالتفاف لقضية أهم وأعظم مما يتصارعون من أجله.. وهي الدستور. لقد كنا جميعا نتمني بعد مجيء رئيس منتخب للحكم عبر شرعية الصناديق, وقد وعد أنه سيكون رئيسا لجميع المصريين, أن يتم الانتهاء من كتابة دستور جديد يليق بمصر الثورة, ويكون دستورا يحافظ علي جميع الحقوق علي قاعدة المواطنة وينطلق من وثيقة الأزهر الشريف, التي شرفت بالمشاركة في صياغتها, وتم وضع بنودها من قبل توافق وطني بين كل الأطياف والاتجاهات الفكرية والسياسية والعلماء والمثقفين والمفكرين من رجال ونساء وشباب ومسلمين ومسيحيين. وهي وثيقة تاريخية نستلهم منها المبادئ الرئيسية وتبقي في قلب الدستور الجديد لأنها معلم مهم في الخريطة السياسية للم شمل جميع القوي. كان يحدونا الأمل في دستور يحدد ملامح النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد, ويوضح كل الاختصاصات لرأس السلطة التنفيذية وصلاحياته, وكذلك دور المؤسسة القضائية والعسكرية, ويحقق الفصل التام بين السلطات ويطمئن القوي السياسية والمصريين الأقباط علي وجود ضمانات تنهي عقودا من الإقصاء والتهميش وعدم التمييز علي أساس الدين أو اللون أو الجنس, مع وجود نصوص تؤكد حق التعايش السلمي بين جميع المصريين في وطن واحد تحت مظلة سيادة القانون والمصريين سواسية في الحقوق والواجبات, وكل المشكلات لابد أن تجد طريقها للحل في إطار ديمقراطي. في هذا السياق نعتقد أن المطلوب من الرئيس محمد مرسي وهو يطرح كرجل دولة منتخب عبر إرادة الشعب ألا يترك حزبه وتنظيمه يدغدغ مشاعر الجماهير ويوجهها لمصلحة اتجاه معين في كتابة الدستور الجديد للبلاد لا يراعي مصالح جميع المصريين فالذي فاز بمنصب الرئيس هو مصري جاء من وسط المصريين بمختلف شرائحهم وانتمائهم. وهذا يعني أن الدكتور محمد مرسي هو الرئيس المصري المسلم لجميع المصريين مسلمين وغير مسلمين. ولنا في التجربة التونسية بعد الثورة نموذجا ومثالا يحتذي به في المنطقة. لذلك فإن من أسباب النجاح في تونس أن الرئيس المنصف المرزوقي جعل الدولة فوق التنظيم والأمة فوق الجماعة والفرد قبل المجموع ونجح إلي حد ما في أن يجمع وألا يفرق بين التيارات السياسية ولذلك حظي بالاحترام والتقدير, نظرا لما قدمه من جهود لتحقيق المصالحة الوطنية بين التيارات المدنية والإسلامية علي أرضية مشتركة وهي تونس أولا وقبل كل شيء. وكان ذلك مقدمة لإعداد دستور مبني علي قاعدة الجميع مواطنون في دولة مدنية وديمقراطية حديثة. كان أملنا أن تنجح تلك التجربة في مصر وتصبح نموذجا فريدا في المنطقة لحكم إسلامي رشيد يأخذ في الاعتبار تعددية الشعب المصري وخصوصياته ويقوم علي إرساء وترسيخ قاعدة المواطنة, حتي نصل إلي المصلحة الوطنية المنشودة بين جميع التيارات السياسية وشرائح المجتمع المختلفة, مثلما فعل الزعيم نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا. وقد كان وقتها يواجه مشكلات وتحديات أصعب بكثير مما نواجهه الآن. وقد انطلقت جنوب إفريقيا ومن قبلها الهند وفيهما الكثير من الظروف المتشابهة في عالمنا العربي. لكنها الإرادة والعزيمة والرغبة في تخطي المشاكل وأن كانت عصية وصعبة علي الحل. إن التحدي الأكبر هو كيفية التوازن بين الواقع والطموحات. فمصر دولة كبيرة لديها مقومات حقيقية للتقدم والريادة مثل تلك الدول, لكن لم يتم تحقيق التوازن المطلوب. ولذلك تأخر الإصلاح المطلوب سياسيا واجتماعا وانعكس ذلك علي الأداء الاقتصادي, فطارت الاستثمارات الأجنبية الي دول أخري مستقرة والمعرفة أن رأس المال جبان لا يستوطن في بلد فيه صراعات. لقد باتت شريحة كبيرة من المصريين تشعر بأنها لم يحدث لها تغيير ملموس في الملفات المهمة مثل الاقتصاد والأمن والفقر والبطالة. كما أنه لا توجد رؤية أو مشروع قومي حقيقي يلتف حوله المصريون. لذلك يعتقد البعض أن الخروج من الأزمة الراهنة والصراع المحتدم هو أن يبادر لاتخاذ قرار مصيري وحازم بأن يقدم استقالة حقيقية من الحزب الذي ينتمي إليه قبل أن يصبح رئيسا لجميع المصريين. وهذا القرار ضروري لإصلاح النظام السياسي. وسوف يترتب عليه إعادة ترتيب البيت المصري من الداخل, حتي لو كان ينطوي علي بعض المخاطر. فلا شك أن المضي في طريق الديمقراطية ينطوي علي مغامرة, لكنها مغامرة مع ركب التاريخ وليس ضده. المزيد من مقالات مني مكرم عبيد