من المفارقات أن أوروبا لم تحرك ساكنا بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في وقت سابق من العام الحالي, ولكنها انتفضت ذعرا عندما بدأ المقاتلون الإسلاميون المتشددون المحسوبون علي تنظيم القاعدة يسيطرون علي الأقاليم الصحراوية شمال البلاد ويطبقون قوانينهم الخاصة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. الانقلاب في حد ذاته لا يمثل أي مشكلة بالنسبة للغرب المتقدم الذي طالما نهب خيرات القارة السمراء لعقود عديدة, فلتذهب مالي وأفريقيا كلها إلي الجحيم لو اقتضي الأمر! وليت الأمر توقف عند حد غض الطرف عن الانقلاب, فقد كان رد فعل أوروبا سلبيا جدا عندما أعلن الطوارق من متمردي الحركة الوطنية لتحرير أزاواد في وقت سابق من هذا العام الاستيلاء علي معظم أجزاء شمال مالي وسعوا إلي الانفصال, وذلك قبل أن يظهر بعبع الإسلاميين ويحكم المقاتلون المسلحون قبضتهم علي ثلثي شمال مالي الذي كان خاضعا للطوارق, ويشمل أقاليم جاو وكيدال وتومبكتو, حيث قاموا بطرد الطوارق من تلك المناطق, وبدأوا في تطبيق قوانينهم الخاصة التي تنسب في وسائل الإعلام الغربية خطأ أو جهلا إلي الشريعة الإسلامية, ومن بينها واقعة الاعتداء الشهيرة التي قاموا بها علي موقع تومبوكتو التاريخي الشهير لوجود أضرحة به! فهنا فقط ثارت أوروبا, وخرجت تصريحات تتحدث عن أمور كلها تدور في إطار التخويف الغربي من فزاعة الإسلاميين, مثل التحذير من تحول شمال مالي إلي بؤرة للإرهاب في أفريقيا, ومن تصدير الإرهاب الإسلامي إلي أوروبا عن طريق مالي, وتهديد أمن أوروبا في غضون عامين, علما بأن مالي تعد من الدول الأفريقية التي لا تملك أي منافذ بحرية, إذ تحدها اليابسة من جميع الجهات, بعكس دول أخري كالجزائر مثلا أو موريتانيا, مما يجعل من عملية تصدير أي شيء من هذا البلد المنزوي في الصحراء الكبري إلي أوروبا أمرا مستحيلا وغير مفهوم, ومبالغا فيه!لم تكن هناك أي مشكلة لدي الغرب من وقوع انقلاب في مالي لكنها ارتبطت فقط بظهور الإسلاميين, وبدأ الحديث عن تدخل عسكري, رغم أن الواقع يقول إن الطوارق وهم انفصاليون علمانيون- يستطيعون استعادة السيطرة علي مناطقهم في المستقبل القريب, كما تستطيع قوات الجيش المالي القيام بالشيء نفسه لو استتبت الأمور في باقي أنحاء البلاد وبدأت تتفرغ لحل مشكلة الشمال الصحراوي, خاصة أن الإسلاميين الجدد لا يملكون معدات ثقيلة أو أسلحة مخيفة, فضلا عن أن الأزمة تبدو قابلة للحل أيضا من جانب دول الجوار, وبخاصة الجزائر, وكافة دول الاتحاد الأفريقي التي قالت في قمة أديس أبابا الأخيرة إنها لن تدخر جهدا في سبيل إعادة توحيد البلاد, ولكنهم استبعدوا وجود ضرورة لتدخل عسكري أفريقي في الوقت الحالي في مالي, منعا لتعقيد الوضع أكثر من ذلك, واتفق القادة الأفارقة علي أن يكون التدخل العسكري في مالي هو الخيار الأخير أمامهم, ربما من منطلق إدراكهم بأن المسألة لا تستدعي كل هذا الفزع. الصوت الوحيد الذي كان يتحدث بنفس لهجة مسئولي أوروبا ووسائل إعلامها كان الحسن واتارا رئيس كوت ديفوار, فقد حذر أمام القمة الأفريقية, وهذا رأيه, من وجود نية لدي جماعات الإرهاب الديني لإقامة ملاذ آمن في شمال مالي, وتحدث عن صلات مزعومة بين عناصر القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي وبين جماعات إسلامية أخري عنيفة ومتشددة مثل بوكو حرام التي استوحشت في نيجيريا, وحركة الشباب في الصومال, إلا أن هذا الكلام مردود عليه بالقول إن البعد الجغرافي بين الدول الثلاث يجعل من المستحيل وجود أي نوع من التعاون أو الاتصال بين الجماعات الثلاث, فضلا عما هو معروف من أن بوكو حرام جماعة نشأت في ظروف محلية خاصة مرتبطة بفكرة رفض التعليم الأجنبي في نيجيريا, وكذلك حركة شباب المجاهدين في الصومال التي ظهرت في ظروف خاصة ومحلية أخري ارتبطت بغياب الدولة.إذن, فالمواجهة والحل يجب أن يأتيا من داخل القارة الأفريقية, بل ومن داخل مالي نفسها, فهناك فرصة لحدوث تحالف بين الانفصاليين الطوارق وقوات الجيش المسيطرة علي العاصمة باماكو بهدف التوحد للقضاء علي المقاتلين الإسلاميين وكثير منهم من الأجانب- وطردهم من الشمال. فالتدخل الأجنبي ليس حلا, ومبرراته غير مقنعة, وهي تساق لتحقيق أغراض معينة, وأولي بالغرب أن يترك شئون القارة الأفريقية لأهلها فهم أدري بها وبمصالحها ومستقبلها, ولنا في تجارب دول الربيع العربي خير دليل علي ذلك! أما عما يقال بأن صحراء مالي وإسلاميين مسلحين بالبنادق القديمة والهراوات تمثل تهديدات لأمن أوروبا فهذا هو السخف بعينه!