صلة الدم لاسبيل إلى فتورها «عمر الدم ما يندار ميه»، ومهما حدث من شقاق بين الأخوة، فهم يتكاتفون بمواجهة الغريب «أنا وأخويا على ابن عمى وأنا وابن عمى على الغريب»، فالأرحام عادة لا تدفع بالأعداء «عمر البطن ما تجيب عدو»، وغاية الشجار بين الأخوة المهارشة، و«أخوك أخوك وابن الناس عدوك». وصلة الدم على أية حال درجات، فالمأثورات تصور صلة الأب بأبنائه أقوى من صلة الأخ بإخوته، لأن «الأب جلَّاب والأخ سلَّاب»، لكن الأب نفسه الذى يصفه المثل ب «الأب رب» لا يبلغ درجة الأم «الأب يطفش والأم تعشش»، والعادة أن الآباء ينظرون إلى أبنائهم وأحفادهم لأبنائهم نظرة تختلف عن تلك التى يقيسون بها بناتهم وأبناء بناتهم، فالعرف أن الابن ينحدر من صلب الرجل «ابنك من صلبك» و«ابنك انت زيك انت»، وتنصح الأمثال الأجداد برعاية أحفادهم لأبنائهم «ابنى فى ملكك وملك غيرك لأ.. وربِّى فى ابنك وابن بنتك لأ»، وتقول النساء «ابن الابن عدَّا وعدّانى وابن البنت عدَّا وخلاني». فالعصوبة إذن قائمة على الحق الأبوي، والذين درسوا تطور المجتمع، يردون الحق الأبوى إلى فترة من التاريخ متأخرة عن تلك التى سادها الحق الأمّى وهى مرحلة المجتمع العبودي، مرحلة بدء التاريخ. وبالرغم من هذا فنحن فى القرية مثلا نسمى أخوة آبائنا، وأولاد عمهم ومن هم فى مستواهم من الصلة العائلية، نسميهم «أبوى فلان». وفى نفس الوقت نسمى أخوة الأم وأبناء عمها «خالى فلان»، ونسمى كل سيدة فى مقام أخت الأم «خالتى فلانة»، فنعترف للجيلين المتوازيين بنفس الحق ويتبع ذلك نوع السلوك الذى نبديه بإزائهما، فكما نحترم الأب نفعل ذلك مع إخوته وأبناء عمومته، وكما نحترم الأم نسلك بازاء أخوتها وبنات أعمامها، نفس السلوك الذى نتبعه معها. وكذلك الشأن مع الإخوة الكبار ومن فى درجتهم من الأقارب، فنحن نضفى عليهم لقب «أخ» ونتخذ بإزائهم السلوك الذى نتخذه مع إخواننا الأكبر مناوهذا الترتيب للعلاقة العائلية ودرجات القرابة يلازم العصوبة، ويذهب فى التاريخ إلى فترات مبكرة للغاية حيث كانت درجات القرابة فى العشيرة والقبيلة ذات أهمية قصوى وذات التزامات وحقوق ثقيلة، والأدب الشعبى يصور لنا فى أنواعه الخاصة بالهجاء والشكوي، وقصص أخذ الثأر، عمق فكرة العصوبة لدى العامة: وخطر «الأصل» الذى نستدل عليه، حسب الأمثال، من سلوك صاحبه ف «ابن آدم إذا تاه أصله دلايله فعله»، لأن كريم الأصل رجل فاضل وخسيسه نذل «ابن الأصول ينتخى وابن الندل لأ». ومن الشعر ما يتفاخر بنسبه ويحفظ قائمة أنسابه، شاعر يذهب بنسبه إلى أبى العباس المرسي، ويكفيه كلما هجاه أعداؤه أن ينادى جده الأول أبا العباس، كناية عن التعالى والاعتزاز: عملت معروف مع الأندال شتاموني وعابو فيا فى كل مكان شتاموني ومن قلة الأصل غير أسباب شتاموني وسبو أصلى وأنا جدى أبو العباس منسوب لطه النبى الشريف من الجدين وجدى أبو الوفا ظاهر وأبو العباس وعندى نسبة مكتوبة إلى الجدين لكن السماح والكرم أفضل بابو العباس لازم اسير ع المدد وأتبع إلى الجدين وإن كنت منضام أنادى لك يا بو العباس أنظر ألاقى الفرج جانى من الجدين وفى العادات الشعبية قواعد للمحافظة على العصوبة فابن العم مقدم على كافة طلاب الزواج من الفتاة، وله عليها حق عرفى «ابن عمها ينزلها من فوق ضهر الحصان»، ويقصدون هنا إمكانه أخذها زوجة له ولو كانت فى طريقها إلى بيت الزوجية، والمثل يقول: «آخذ ابن عمى واتاوى فى كمي»، وذلك التفضيل لأن ابن العم يلتزم بزواج البائرة «حماية للعرض»، وهو كالأخ مطالب بالدفاع عن الشرف والمجازاة على إهداره. وتتسع هذه الفكرة إلى تفضيل الأقرباء على الغرباء والمثل يقول: «ابعدوا نحبكم وقرّبوا نسبكم» و«أخذت الغريبة وعملتها خيّة فتشت جروحى واتشمِّتت فيه». والعصوبة قائمة فى الذهن الشعبى على وجود الرجال أما النساء فلا وزن لهن، ونجد فى عادات الميلاد والسبوع والزواج والوفاة احتفاء شديداً بالذكور أو بكاء عنيفاً عليهم، لأن الأولاد «ياخدو التار وينقو العار»، وإذا كنا نجد من الأمثال ما يعارض المعانى السابقة، سواء فى مؤدى درجات العلاقة العائلية، أو تفضيل البنت على الولد، أو فى تحبيذ أهل الأم دون أهل الأب، أو فى الدعوة إلى الابتعاد عن الأقارب، فهذه المأثورات انعكاس للعلاقات والعادات القائمة، تجرى فحسب عند التشاحن أو فى الأمور الشاذة، أو لعلها تصوير لروح المدينة التى تجرى فى عكس اتجاه روح القرية.