كأنى رفعت الغطاء عن المرجل الذى وصل الى حالة الغليان فاندفعت منه الأبخرة ساخنة تحرق الوجوه، فما إن نشرت مقالى فى الأسبوع الماضى حول الانتهاكات التى يشهدها حى المعادى حتى انهالت على الرسائل والمكالمات الغاضبة التى تشكو من الإهمال والخراب الذى حل بهذا الحى، وقد كانت أولهم السيدة أشنادل مرتجى التى شكت لى من مشكلة المقاهى التى بدأت تنتشر فى هذا الحى السكنى بدرجة غير مسبوقة، والتى سبق للأهالى الشكوى من عشوائيتها لكن دون جدوى، ففى التخطيط الأولى للمعادى كانت المحال التجارية مقتصرة على الشارع التجارى للحى، وهو شارع 9، أما بقية الحى فكان حيا سكنيا، وللعلم فإن الحى السكنى، وهو تعبير لم نعد نعرفه فى بلادنا، هو الحى الذى يقتصر على سكنى قاطنيه ولا يسمح فيه بورش الميكانيكيا ولا بمحال الجزارة أو النجارة، وذلك بالطبع شيء يكاد يكون اندثر من عندنا بعد أن أصبحت سلطات الحى تمنح التصاريح لفتح مثل هذه المحال فى كل حى وأسفل كل عمارة. أنا لا أتحدث هنا عما يوجد فى أوروبا وإنما على ما كان قائما عندنا هنا فى مصر، فمازلت أذكر حين كان المعادى حيا سكنيا، ومازلت أذكر أن حى الزمالك الذى كان فيه بيت والدى كان حيا سكنيا هو الآخر، وأذكر الغضب الذى اعترى سكان العمارة التى كنا نسكنها حين سمحت السلطات لأول مرة لأحد «الكوافيرات» بأن يفتح له محلا أسفل العمارة، وهى عمارة «ليبون» الواقعة على النيل بشارع الجبلاية، والتى كانت عمارة سكنية منذ إنشائها عام 1952، ولم يكن بها بقال ولا حلاق ولا جزمجى، لكن عديل الرئيس السادات المرحوم محمود أبو وافية، وقد كان متزوجا من السيدة دليادير صفوت رؤوف شقيقة السيدة جيهان السادات، جاء يسكن العمارة بعد أن أصبح وكيلا لمجلس الشعب، وكان «الكوافير» الذى انتهكت من أجله قوانين الحى هو مصفف شعر زوجته، لذا ألغيت من أجله بعض غرف الشغالين الواقعة أسفل العمارة لتفسح مكانها لمحله، وسرعان ما فتح هناك مطعم «سوشى» بنفس المكان. إن الشيء نفسه يحدث ومنذ سنوات فى المعادى، فمنظومة القبح والإهمال والعشوائية تتم على ما يبدو بتخطيط مركزى محكم بحيث لا يفلت منه أى حى من أحياء القاهرة التى كانت أيام آبائنا (وليس أجدادنا) من أجمل مدن العالم، ففى كثير من الأحيان يقوم الحى نفسه بمنح تصاريح إقامة تلك «الكافيهات» والمحال التجارية فى أماكن لا ينبغى أن يصرح فيها بهذه المحال. على أن المسألة ليست مقصورة على تلك التصاريح الرسمية التى تحوم حولها الشبهات والتى تعيد الى الأذهان الكلمة المأثورة التى قالها أحد كبار المسئولين السابقين من أن «الفساد فى المحليات وصل للركب!«، فقد أصبح من لا يملك تصريحا يفتح هو الآخر «كافيه» أو مطعما فى الشوارع السكنية، وقد كان «الكافيه» المذكور الذى انطلقت موسيقاه الصاخبة على ناصية الشارع الذى تسكنه السيدة أشنادل، وتسكنه السفيرة مشيرة خطاب، المرشحة الحالية لمصر فى انتخابات اليونسكو، بلا ترخيص، وقد أمكن بعد جهود مضنية إغلاق المقهى أكثر من مرة بالشمع الأحمر، لكنه كان يعود فى كل مرة لنشاطه ولموسيقاه الصاخبة بعد 36 ساعة فقط من إغلاقه، وهو مازال موجودا حتى الآن تحت اسم جديد جنبا الى جنب مع المقاهى الأخرى التى تمكنت من الحصول على تصاريح رسمية بمعاونة موظفى الحى كعنوان للفساد والعشوائية المخالفة لأى تخطيط عمرانى فى أى دولة متحضرة؟! وقد اتصل بى السفير و. ف. الذى أوضح أنه لا يحق له الإدلاء بتصريحات إعلامية، لكنه أخذ على ما وصفت به حى المعادى فى مقالى، وقال مادام أن «التكاتك» أصبحت تصول وتجول فى شوارع المعادى، فلا مجال للحديث عن «الحى الراق«، أو«الحى السكنى«، أو«الحى الهادئ» أو«حى الفيلات«، فالمعادى الآن لم تعد حيا راقيا ولا هادئا ولم تعد به فيلات، بل ولم يعد حيا سكنيا، وإنما هو حى صاخب وعشوائى تنتشر فيه المحال التجارية المصرح بها وغير المصرح بها، وتساءل لماذا هذا التخريب المتعمد الذى أصبح يطال كل شيء فى حياتنا؟ إن مواقع الاتصال الإلكترونى الخاصة بالمعادى بها ثورة عارمة بسبب الاختناقات المرورية التى خلقها إغلاق كوبرى طرة المؤدى الى الكورنيش قبل أكثر من ستة أشهر وعدم إصلاحه، حيث أصبح الخروج الى الكورنيش يستغرق الآن ما بين نصف الساعة والساعة الكاملة فى بعض الأحيان، بسبب التكدس عند المخرج الوحيد الباقى للسكان، وتلك مشكلة أخرى يئن السكان منها. لقد سعدت أن وجدت الإعلام يهتم بالتخريب الذى يحدث الآن للمعادى، وأخص بالذكر الإعلامى اللامع جابر الأرموطى الذى لا يتبنى فى برنامجه الناجح إلا القضايا الجماهيرية الساخنة، فقد أفرد يوم الخميس الماضى مساحة كبيرة من برنامجه للحديث عن هذا الموضوع، والتركيز على السؤال الذى طرحته فى مقالى السابق وهو: ماذا وراء هذا التخريب الممنهج الذى يحدث فى أحيائنا السكنية؟ ولماذا إهمال أبسط متطلبات التنسيق الحضارى فى أحياء القاهرة؟ فإذا كان هذا مسموحا أو محتملا فى الأحوال العادية، فهل هو مقبول ونحن مقبلون على الانتخابات الرئاسية بعد شهور قليلة؟ إن الانتخابات فى حقيقة الأمر هى استفتاء شعبى يظهر موقف الناس من النظام القائم، فمن هم المستفيدون من «تكفير الناس فى عيشتهم» - على حد تعبير جابر القرموطى - ونحن مقبلون على هذا الاستفتاء؟ إن دول العالم كلها تحرص فى سنة الانتخابات على تحسين أوضاع الناخبين، لكن يبدو أنه مازال عندنا فى أجهزة الدولة بقايا من يناصبون دولة 30 يونيو العداء والذين يتصورون أنهم يستطيعون إسقاطها عن طريق تقليب الرأى العام عليها. لقد سعدت فى برنامج القرموطى أنهم قدموا تقريرا مصورا من الشارع يظهر الاعتداءات التى يشهدها حى المعادى منذ فترة، وقدموا صورا لا يمكن قبولها لأكوام القمامة التى أصبحت تحتل الشوارع، وتحدثت السيدة سامية زيتون عن الأبراج التى أصبحت تنتشر فى المعادى والمخالفة لكل قواعد البناء، وعن الأرصفة التى يتم كل يوم بقر بطونها بوحشية تنافس وحشية جيش الاحتلال الإسرائيلى مع المدنيين الفلسطينيين ثم تركها على حالها دون إصلاح، وقد اتصل البرنامج بالعميد رئيس الحى لسؤاله عما يجرى فى المعادى، لكنه أوضح أنه فى مكان لا يستطيع الحديث فيه، وقال إنه سينظر فى الأمر بعد إجازة العيد، فلننتظر إذن حتى تنقضى الإجازة وينظر سيادة العميد فى أمر الحى الذى يرأسه، حيث علق أهل الحى على المواقع الالكترونية قائلين: بعد العيد مش بعيد!. لمزيد من مقالات محمد سلماوى