هناك نوع من المعارك لا يكسب فيه احد بل يخسر الجميع. معركة البرلمان الحائر بين القضاء والمجلس العسكري والرئاسة من هذا النوع. خسر اولا القضاة وفي مقدمتهم اعضاء المحكمة الدستورية عندما تحول العديد منهم الي نجوم في الفضائيات أو نشطاء سياسيين يشنون حملات اعلامية مكثفة دفاعا عن موقفهم من حل المجلس وغيره من القضايا. كدنا نظن ان المحكمة الدستورية في طريقها لأن تصبح حزبا سياسيا لكثرة ما نطالعه في الفضائيات والصحف لأعضاء فيها يتحدثون عن قرار الرئيس مستخدمين للأسف لغة غير معتادة من القضاة الاجلاء. نفس الامر فعله المستشار احمد الزند رئيس نادي القضاة وعشرات غيره من القضاة الحاليين والسابقين. بل ان الامر تطور الي تبادل عنيف وجارح للاتهامات بينهم بصور صدمتنا فيهم جميعا. يعرف القضاة ان اشتغالهم بالسياسة غير قانوني ولا نحكم هنا بخرقهم القانون فهم ادري به منا. لكننا نعلم مثلهم ان من يلعب بالنار سيكتوي بلهيبها وان النزول الي حلبة السياسة مخاطرة محفوفة بمخاطر النيل من الهيبة والقدسية التي يتشح بردائها اعضاء هذه المهنة الجليلة. لذلك لم يكن غريبا ان نسمع صيحات التهجم بل السباب ضد قضاة بعينهم من متظاهرين اعتراضا علي مواقف وتصريحات لهؤلاء المستشارين, لاسيما بعد هجومهم الجارح والحاد وغير المقبول علي الرئيس مرسي. ولم يكن غريبا ايضا ان يهتف العمال ضد المستشارة تهاني الجبالي نائب رئيس الدستورية خلال حضورها احتفالا عماليا مطالبين بإخراجها وهو ما لم يكن منه بد في مشهد لم نكن نتمني لقاض ان يواجهه. لكنه مستنقع السياسة الذي يلوث من يخوض فيه شاء ذلك ام ابي. طرف آخر كانت خسارته جسيمة وهو الاعلام الذي عزف سيمفونية فجة ووحشية لتصفية حسابات عقائدية اولا وسياسية ثانيا مع الاخوان من خلال هجوم ضار وجارح ضد الرئيس, تضمن احيانا عبارات يعاقب عليها القانون سواء من الاعلاميين انفسهم او علي لسان الضيوف المتحدثين. لا يمكن ان تكون هذه هي الديمقراطية التي تمنيناها واستشهد في سبيلها المئات من خيرة شباب مصر. اهانة رئيس الدولة وتجريحه والتطاول عليه ليس شرفا او بطولة, خاصة عندما تأتي هذه الاهانات من شخصيات ليس في تاريخها اي بطولات او مواقف مضيئة. وهو ما يثير الحيرة والريبة والتساؤل بشان اعراض الشجاعة المتأخرة التي انتابت هؤلاء في وقت واحد وبصورة منتظمة. لا نريد ان نصنع فرعونا جديدا ولا ندعو لان يكون رئيس الدولة فوق القانون او النقد. غير ان ما يحدث شيء يختلف عن ذلك تماما ولا يمكن افتراض حسن النية فيه, وإلا ما تفسير الدعوات المحرضة للجيش علي التدخل لحماية دولة القانون. خسرت وسائل الاعلام بما فعلته وتفعله, وخسرت ايضا النخبة السياسية المتورطة معها في المذبحة اليومية المنصوبة للرئيس. الرئيس ايضا احد اكبر الخاسرين. ليس بسبب تطاول البعض عليه ومحاولة تشويه صورته امام الرأي العام, والادعاء بعجزه عن حل مشاكل الجماهير(عبر افتعال ازمات متوقعة) ولكن لأنه اختار المعركة الخطأ في التوقيت الخطأ ليدشن بها حربه الرئاسية. لم يستفد شيئا محددا من تلك الازمة. بل علي العكس اعطي خصومه فرصة ذهبية للنيل منه, وشتت التحالف الوطني الذي التف حوله للمطالبة بانتزاع صلاحياته من المجلس العسكري وإلغاء الاعلان الدستوري المكمل. وكان ينبغي ان تكون هذه هي اولوياته مستفيدا من التأييد الشعبي الجارف لهذه المطالب, وساعيا الي اثارة مخاوف المواطنين من تغول العسكريين وتشبثهم بالسلطة بدلا من اثارة مخاوفهم من تغوله هو نفسه علي السلطة القضائية كما اتهمه منتقدوه. اخيرا لم يكن المجلس العسكري بعيدا عن قائمة الخاسرين رغم انه ادار المعركة بمهارة تكتيكية مكتفيا ببيان رقيق في بدايتها. ثم تبين ان له وكلاء مدنيين يتولون عبء اطلاق المدفعية الثقيلة بعد ذلك علي الرئيس. غير ان الحقيقة هي ان هذه الازمة وغيرها من الازمات الماضية واللاحقة هي ثمرة اسلوب وطريقة ادارة المرحلة الانتقالية التي اشرف عليها المجلس. باختصار كلهم خسروا: الرئيس والمجلس العسكري والقضاة والمثقفون والإعلام. وكلهم سيحاولون ان يعوضوا خسائرهم في جولات مقبلة.. وعلي مصر ان تظل تدفع الثمن الي ان يقضي الله امرا كان مفعولا. المزيد من مقالات عاصم عبد الخالق