مثل خروج السيد عمار الحكيم من المجلس الأعلى الإسلامى وتكوينه كيانا جديدا باسم «تيار الحكمة الوطني» مفاجأة للكثيرين داخل العراق وخارجه ، فعلى الرغم من أن الخلافات داخل المجلس بين جيل الشباب الذى يمثله رئيس المجلس وبين الحرس القديم لم تعد سرا إلا أن أحدا لم يكن يتوقع خروج الحكيم من المجلس الذى أسسه عمه وتولى رئاسته والده من بعده . وقع الاختلاف لأكثر من سبب ما يهمنا منها فى هذا المقال رغبة الحكيم فى تحقيق التوازن فى علاقات العراق الخارجية خصوصا بين العرب وإيران ، وتطلعه إلى إنهاء حالة الاستقطاب الطائفى التى واكبت الاحتلال الأمريكى ودفع ثمنها شيعة العراق وسنته ، وهذا معنى قوله « إن عراق 2017 يختلف عن عراق 2003» . ولو طورنا هذا المنطق أكثر لقلنا إن انتقال الحكيم من المجلس الأعلى إلى تيار الحكمة يمثل نوعا من محاولة نقل مصدر شرعيته من الخارج أى من إيران التى استضافت المعارضة الشيعية العراقية ومنها المجلس الأعلى إلى الداخل العراقى بعد الحصاد المر للصراع الطائفى وتجربة أعوام ثلاثة من حكم تنظيم داعش. وهكذا فعندما شكر الحكيم إيران فى خطابه فإنه فعل ذلك لأن إيران جزء لا يتجزأ من الماضى السياسى لآل الحكيم لكن فيما يخص المستقبل فإن تياره الجديد يبدو أكثر انفتاحا على الحاضنة العربية للعراق. من المنتظر أيضا أن يحدث انشقاق فى حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون وهو انشقاق يخرج بمقتضاه حيدر العبادى رئيس الوزراء ليشكل كيانا جديدا قد يحمل اسم «التحرير والبناء» ، ومن نتائج هذا التطور عزل الجناح الذى يتزعمه نورى المالكى داخل الحزب ونحن نعرف جيدا ماهى التوجهات السياسية للمالكى . نفتح هنا قوسين لنقول إن عددا من القوى السياسية كانت قد طالبت العبادى من فترة ليست قصيرة بمغادرة حزب الدعوة وتكوين كتلة عابرة للطوائف باسم « كتلة العمل أو الإنقاذ» ، لكن وقتها كان داعش يجثم على صدر العراق وقد تعلمنا فى علم السياسة أن التناقضات الرئيسيّة لها أولوية على التناقضات الفرعية وكان التناقض مع داعش هو التناقض الرئيسى والاختلافات بين القوى الشيعية هى التناقضات الفرعية. أما الآن فلقد اختلف الوضع واقترب موعد الانتخابات التشريعية وبالتالى فإن الخطاب السياسى للقوى المتنافسة يجب أن يبحث عما يجمع العراقيين وليس عما يفرقهم حتى يقتنع به جمهور أوسع . من جهة أخري، يتوقع البعض أن يحدث تقارب بين كل من الحكيم والعبادى من جهة وبين السيد مقتدى الصدر من جهة أخري، وكان الصدر قد رحب بظهور تيار الحكمة الوطنى وباركه خاصة أن الفجوة بين الصدر وبين إيران أخذت فى الاتساع وصولا إلى تنظيم أنصاره مظاهرات فى البصرة تطالب بخروج إيران من العراق وتهتف «إيران بره بره». فإذا أضيف لهذا الثلاثى إياد علاوى وكتلته الوطنية بعد أن تتغلب المصلحة الانتخابية على الاعتبارات الأيديولوچية لكان معنى هذا أنه فى الانتخابات القادمة يمكن للخطاب الشيعى المعتدل أن يحرز أغلبية مريحة ويعزل الخطاب الطائفى الذى يتبناه صقور المجلس الأعلى وحزب الدعوة معا. لكن أين هم سنة العراق من هذه التطورات فى المشهد السياسى العراقي؟ فى العامين الأخيرين نشأ تقارب بين سليم الجبورى رئيس مجلس النواب وبين نورى المالكى وذلك على الرغم من بعد الشقة بينهما- فالأول حتى أيام قليلة مضت كان قطبا أساسيا من أقطاب الحزب الإسلامى غريم حزب الدعوة ومحسوب على الإخوان المسلمين ومتهم بالعمل مع أطراف خارجية عربية وغير عربية. لكن المصلحة اقتضت أن يتعاون الرجلان، فوقف المالكى مع الجبورى فى مواقف كثيرة ومنع الإطاحة به من رئاسة البرلمان، ويراهن المالكى بذلك على كسب تأييد الجبورى له فى الانتخابات التشريعية المقبلة. أما فى تقديرى الشخصى فإن الجبورى يستفيد من قوة المالكى وعلاقته بإيران لكنه بعيد عن التحالف معه ولو على مستوى الانتخابات، فالجبورى يعلم أنه لو تحالف مع المالكى فإنه سيقطع مع جانب كبير من قاعدته السنية ، ثم أن الجبورى ليس مضطرا لهذا التحالف فأمامه فرصة للتقارب مع معسكر الاعتدال الشيعى وهذا خيار أكثر أمنا بالنسبة له. أما التطور الأبرز الذى ينتظر الساحة السنية فهو العودة المرتقبة لرجل الأعمال القوى خميس الخنجر من مقر إقامته فى الإمارات، فالرجل له مشروعه الخاص «المشروع العربى فى العراق»، وهو قريب من علاوى وأيضا من الجبورى كما أنه شديد الثراء - وتلك أمور كفيلة بأن تجعل منه مركز قوة وربما عامل تجميع للسنة أو فى القليل لعدد لا بأس به منهم. أما كيف ستتعامل الحكومة العراقية مع عودة الخنجر وهو المدان قضائيا بدعم الإرهاب ومطلوب للعدالة فهذا سؤال يوجه لرئيس الوزراء حيدر العبادي. لقد خرجت إيران منتصرة عسكريا بعد هزيمة داعش فى العراق هزيمة نكراء لكن نفوذها السياسى آخذ فى التآكل، فها هى الأطراف الشيعية القريبة منها تبتعد عنها خطوات ولو مرحليا لكسب الأصوات الانتخابية . وهاهى السعودية تنفتح على العراق وتستقبل مقتدى الصدر وتعد لاستئناف الطيران بين الرياض وبغداد وتمهد لتطوير كبير فى علاقات البلدين وهذا يخصم من نفوذ إيران.. أما متى تتحول الصفقات الانتخابية التى ترفع شعار المواطنة إلى قواعد مبدئية حاكمة للعملية السياسية فى العراق فإن ذلك يحدث عندما ينتهى توصيف التحالف الوطنى بأنه «شيعي» واتحاد القوى بأنه «سني» فالمواطنة شئ والتوصيف المذهبى للأحزاب السياسية شئ آخر. لمزيد من مقالات د.نيفين مسعد;