يرتبط اسم سيف الرحبي بشعر الحداثة في سلطنة عمان, واحدا من المتمردين علي التقاليد الشعرية الطويلة الأمد, والحالمين بشعر جديد مغاير, وكتابات لها نكهة المغامرة ودهشة الاكتشاف. وهو في كتابه الجديد: القاهرة أو زمن البدايات يعود إلي مختزنات الذاكرة, ليطل من جديد- حيث هو الآن نضجا واكتمال عمر وخبرة- علي سنوات تكوينه المعرفي والعاطفي والوجداني الأولي- في السبعينيات-, فيدرك أن القاهرة كانت هي البوابة بالنسبة له نحو العالم بما يعنيه من سياسة وحداثة أدبية وفكرية, وهي البداية الحقيقية للتعرف علي الذات جسدا ومشاعر, وكذلك علي الآخر أو العالم- ليس ذلك الغربي البعيد كما درجت الدلالة- إنما العربي أيضا الذي ننتمي إلي لغته وإرثه وثقافته. فقد كانت عمان- كما يقول عنها- قبل سبعينيات القرن المنصرم, علي نحو من عزلة قسرية, وانغلاق حرمها لفترة طويلة من هذه المعرفة والتقابل الطبيعيين. وفي القاهرة- التي عاش فيها السبعينيات بتحولاتها والتباساتها الكثيرة- كانت هذه المرحلة من حياته, هي الوحيدة علي هذا النحو من الاستمرار الزمني, والتماسك, في المكان الواحد. ولأن الكتاب أشبه ما يكون باللوحات المعبرة, المختلطة بأمشاج من قصائد الشاعر وطيوفه الكونية والإنسانية المصاحبة, فإن سحر الكتاب يظل في حميميته, وتعبيره عن الوجوه التي صاحبت الشاعر في سنواته القاهرية, وارتبطت بها مغامراته وغزواته- في الليل والنهار- وفي الأماكن التي ارتبطت بها حيوات عديد المثقفين والفنانين والمبدعين. أترك سيف الرحبي لوصف ارتطام وجدانه لأول مرة بالقاهرة, قادما من بيروت, وهو يقول: اتجهنا نحو القاهرة, ونزلنا بادئ الأمر بفندق في العتبة, وفي الصباح حين فتحت الشبابيك, شاهدت صخب ميدان العتبة يلتصق بعنان السماء. كل شيء يختلط بكل شيء, والألفة الحميمية والشتائم تجرف الجميع. هذه القاهرة, سأقضي فيها ثمانية أعوام, يمكن القول إنها من أجمل سنوات العمر وأكثرها حضورا وحنينا وتأثيرا, قبل الأفول الماحق لسنين أخذت تهرب بسرعة البرق من بين أيدينا ونحن نرقب المشهد في ذهول منكسر, نري الشرر والشظايا تتطاير في الفضاء ونعرف أنها أرواحنا. أبناء جيل ومرحلة- كما المصنفون- انفرط عقدهم قبل الأوان. بعدها سأتجه إلي دمشق إثر عمل تمهيدي في دولة خليجية. وصولا إلي قوله:مواطن الخطوة الأولي لا شك ستقود إلي هاوية خطوات لا حصر لها, ستقود إلي تيه الخطوة. لقد قصفنا المسافة بأحلام الشعراء, والأكيد أنها قصفتنا, فمكمن الخطورة كلها في تلك الخطوة الأولي, هذا ليس بالتنظير, وما حاجتنا إلي ذلك أمام هذه الحيوات المحتدمة بأباطرة عابرين, وإنما كلام الخطوة الأولي وهي تنغرز في عنق المضيق. وتري الصحراء محمولة علي قرون الأكباش. بعد سنين, سنين من البرد والمسافة والحنين, تعود إلي مواطنك الأولي, وتغمض عينيك علي عاصفة ستقتلعك بعد قليل إلي رحيل آخر. منازل تصطفق أبوابها, دائما في أعماق الريح, بجانب رأسي. هكذا تمضي بنا لغة سيف الرحبي وسحر لوحاته البديعة عن قاهرة السبعينيات, ونحن نطالع من خلالها الوجوه والأماكن التي استوقفته, وسبقت غيرها إلي الظهور: أمل دنقل وعلي قنديل وغالب هلسا وسارتر ونجلاء فتحي وأروي صالح, وسكة القطارات في بولاق, وسينما سفنكس, وحديقة الميرلاند, وغيرها من الوجوه والأماكن. بضربات قليلة من ريشته المصورة, يرسم سيف الرحبي شخوص عالمه وأماكنه, لا يحتاج إلي سرد طويل أو ثرثرة, يكفيه أن يلتقط اللمحة الدالة, والقسمة المعبرة, لتتجسد لنا الشخصية بلحمها ودمها, وصدقها وحرارتها, وزهوه وتمايزها, في نبل وجسارة. يقول- مثلا- عن غالب هلسا, الروائي والثوري والمناضل الأردني: منذ انفصاله المبكر عن بيئته الولادية في الأردن, صارت القاهرة مسرح حياته وحريته الإبداعية وسجنه. صار جزءا من نسيج هذه المدينة الشاسعة المتشظية, من أحلام نخبها وطليعتها في السراء والضراء, في خوض غمار التجربة والإبداع. منذ هجرته المبكرة الأولي, صار الراحل الكبير لا تحده حدود الجغرافيا والأقاليم العربية والبشرية المصطنعة, صارت جغرافيا الخيال والأحلام واللغات سكناه الأساسي ومضارب عشيرته المبعثرة في أصقاع الأرض والتاريخ. يصف سيف الرحبي مسيرة غالب هلسا في الرواية من خلال رواياته الثلاث: الخماسين والضحك والروائيون, بأنها مسيرة روائية غابية( نسبة إلي الغابة) شديدة الغني والأصالة بالمعني المفارق. تشكل ملحمة الزمن العربي الراهن بتخلفه وحداثته المكسوة بأفراده وجماعاته, بمدنه وصحرائه الموصدة الأبواب. في ختام لوحته البديعة عن غالب هلسا يقول: في القاهرة, هذه المدينة التي أحببناها حتي الوله والتكرار يحضرني غالب هلسا, يحط طائر روحه علي شجر الخريف الزاحف. مثل هذا الكتاب الذي يتوهج بالسرد والشعر والرسم والنقد, ويمتلئ بالحس الإنساني والحضاري والسياسي لصاحبه, تبدو القاهرة لنا- نحن القاهريين- مدينة تستيقظ في صباح جديد, ثم تغتسل حتي تكون أنظف وجها, وأرق التفاتة, وأغني حضورا. أمثالنا يعيدون اكتشافها وامتلاكها- إن استطاعوا- من خلال كتابات غير القاهريين عنها, العابرين فضاءها لمدة تقصر أو تطول. وتلك هي الإضافة الثرية والجميلة التي يسخو بها سيف الرحبي علي قاهرتنا في السبعينيات, المستقرة في ذاكرتنا. المزيد من مقالات فاروق شوشة