تعد فلسفة السلام هى الفلسفة الراسخة، والقاعدة العريضة الأصيلة، والمرتكز الأساس فى الفكر الإسلامي، حيث يقول الحق سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ". ووفق مفهومى الموافقة والمخالفة فى فهم هذه الآية فإن من يسير فى طريق السلم الإنسانى متبعٌ لما أمر الله به عباده المؤمنين، ومن يسلك مسالك الفرقة والشقاق، والتكفير والتفجير، والخوض فى الدماء، والولوج فيها بغير حق فسادًا أو إفسادًا، متبعٌ لخطوات الشيطان الذى هو لنا جميعًا عدوٌّ مبين, فبداية من الجذر اللغوى لكلمتى السلام والإسلام, نجد أن الكلمتين تشتركان فى جذر لغوى واحد هو "سلم"، ووفق ما قرره العلامة اللغوى "ابن جني" فى كتابه (الخصائص) فى باب الاشتقاق الأكبر أن الكلمات التى تنتمى إلى جذر لغوى واحد تشترك فى جوانب واسعة من المعنى كما تشترك فى أصل الجذر اللغوي, وإذا كانت ألفاظ:" السلم, والسلام والإسلام" تنتمى إلى جذر لغوى واحد هو مادة "سلم", فإن أهم ما يميز هذا الجذر هو معانى السلم والمسالمة. فالإسلام هو دين السلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو نبى السلام، وتحية الإسلام والمسلمين فى الدنيا والآخرة هى السلام، والجنة إنما هى دار السلام، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى فى شأن عباده المؤمنين فى الجنة:" لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"، وتحية أهل الجنة فى الجنة السلام، حيث يقول الحق سبحانه: "دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ", وتحية الملائكة لهم فيها سلام, حيث يقول الحق سبحانه:"وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار"، ويقول سبحانه:"وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا", ويقول سبحانه: " تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا" . وقد سمى ربنا عز وجل نفسه باسم السلام، فقال سبحانه: "هُوَ اللهُ الَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ "، ويدعونا سبحانه وتعالى إلى دار السلام فيقول عز وجل: "وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" ، وإن ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر والتى تعد أعظم ليلة وأعظم منحة من الله للمسلمين ليلة سلام ويقول سبحانه: "سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ"، ولم يقل سبحانه: هى سلام، ليجعل من لفظ السلام عمدة وأصلاً تدور عليه حركة الكون والحياة. وقد نهانا الحق سبحانه وتعالى أن نسيئ الظن بمن يلقى إلينا السلام, فقال عز وجل: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا". فضرورة السلام للإنسان فى الإسلام تنبع من أنه دين يعدل بين الناس جميعًا فى الحقوق وفى الواجبات, ويؤمن بقبول الآخر والمختلف, فالله تعالى خلق الناس مختلفين، قال تعالي: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ". إن السلام الحقيقى يقتضى أن يكون الإنسان فى سلام مع نفسه، مع أصدقائه، مع جيرانه، مع النبات والحيوان والجماد مع الكون كله، ألم يقل النبي:"الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ". وسئل صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ), وقال: (وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ الَّذِى لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)، وزاد الإمام أحمد: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ: (شَرُّهُ), ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة صوامة قوامة إلا أنها تؤذى جيرانها، فقيل له: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِى جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ). لمزيد من مقالات د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف