«لم تعد تعرف ماذا تفعل فكل ما تفعله أو تقوله الآن يجلب عليها المزيد من الانتقادات وتتدهور شعبيتها كل يوم على نحو يقلق حزب المحافظين ويضعها هى شخصياً تحت ضغط رهيب للحفاظ على موقعها».. هكذا تلخص إحدى عضوات حزب المحافظين الحاكم فى بريطانيا الوضع الصعب، والذى يزداد صعوبة، لرئيسة الوزراء تيريزا ماى. فآخر إستطلاع للرأى، أجرى منتصف الأسبوع الحالى، أظهر استمرار تراجع شعبية ماى أمام زعيم حزب العمال جيرمى كوربن. ففى الاستطلاع تقدم «العمال» على «المحافظين» ب6 نقاط، إذ نال «العمال» دعما 45% مقابل 39% للمحافظين. وهذا يعنى أنه لو كانت الاستطلاعات الأخيرة دقيقة ولو أجريت الانتخابات غداً، فإن جيرمى كوربن سيصبح رئيساً للوزراء. وهذا تطور صادم لحزب المحافظين. ووفقاً للاستطلاع، فقدت ماى ثقة الشارع فى إدارة مفاوضات خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى (بريكست). كما فقدت الدعم لسياساتها الاقتصادية وسط تزايد الرفض الشعبى لإستمرار التقشف. لكن نتائج استطلاعات الرأى العام ليست الأخطر على مستقبل تيريزا ماى السياسى، بل «انفضاض» و«إنقلاب» الكثير من حلفاء الأمس عليها من قلب حزب المحافظين وآخرهم وزير شئون البريكست ديفيد ديفيز، الذى سرب مقربون منه ضيقه وقلقه من «الخطوط الحمراء» التى وضعتها رئيسة الوزراء بشأن المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى و«التى تشل يده فى المحادثات» بحسب التسريبات. ففى حزب يدار بقبضة محكمة مثل «المحافظين»، فإن أى تسريب لا يمكن أن يكون «بريئا». وتسريبات قلق وضيق ديفيز من «شل يده» بسبب خطوط ماى الحمراء، لا يشذ عن القاعدة. فهو أبعد ما يكون عن البرىء أو العفوى. خاصة إذا أُخذ فى الاعتبار «تمرد» أعضاء آخرين فى حزب المحافظين، الكثير منهم خفية والبعض علانية مثل وزير الخارجية بوريس جونسون، احتجاجاً على إصرار ماى على عدم رفع أجور موظفى الدولة منذ 2007 بالرغم من ارتفاع معدلات التضخم وتدهور مستويات المعيشة عملياً بسبب انخفاض سعر الجنيه الاسترلينى منذ البريكست. تزايد الأصوات العلنية من داخل الحكومة والحزب التى تنتقد سياسات ماى بهذا الشكل لا يعنى إلا أمرا واحدا وهو أن «سفينة قيادة» ماى تغرق ومن يرد أن يلعب دوراً فى المستقبل لقيادة الحزب أو البلاد فعليه ان يبتعد عنها بقدر الإمكان.لكن «الفيل فى الغرفة» الذى يفسر تفاقم هذا التراجع الحاد فى مكانتها داخل الحزب، وتدهور شعبيتها وسط شريحة واسعة من ناخبى حزب المحافظين هو تحالفها مع «الحزب الديمقراطى الوحدوى الإيرلندى» لتشكيل حكومة أقلية، مدعومة بنواب «الديمقراطى الوحدوى» الذى يتمتع ب10 نواب فى مجلس العموم الجديد من أجل التصويت لصالح حكومتها فى البرلمان فى القضايا المهمة مثل الميزانية ومشروعات البريكست. فمن أجل هذا الاتفاق دفعت ماى للحزب الديمقراطى الوحدوى مليار جنيه استرلينى إضافية إلى ميزانيته. وأخذاً فى الاعتبار استمرار التقشف العام فى كل القطاعات وقف زيارة أجور موظفى القطاع الحكومى منذ 2007، يمكن تصور الغضب العارم من الاتفاق. لكن أسباب الغضب الشعبى وداخل الحزب من الاتفاق مع الحزب الديمقراطى الوحدوى تتجاوز التكلفة المالية. فالحزب، هو حزب صغير غير معروف بدقة على الخريطة السياسية فى بريطانيا، محافظ اجتماعياً واقتصاديا،ً ويمينى التوجه لدرجة أحرجت تيار الوسط فى حزب المحافظين الذى سعى خلال العقد الماضى إلى تغيير الصورة النمطية عن «المحافظين» من حزب يمينى محافظ يعمل لصالح الطبقات العليا، إلى حزب اصلاحى وسطى اجتماعياً واقتصادياً. فخلال سنوات حكمه من 2005 إلى 2016، استطاع رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون توسيع وتنويع القاعدة الاجتماعية الداعمة للحزب من الطبقة العليا و الشريحة العليا فى الطبقة الوسطى إلى الطبقات الوسطى والعمالية. ومن المحافظين اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً إلى الاصلاحيين والليبراليين. ولا عجب أن يكون من أوائل تحركات تيريزا ماى بعد اتفاقها مع الحزب الديمقراطى الوحدوى الايرلندى، هو الاتصال بديفيد كاميرون كى ترجوه إعلان دعمه للاتفاق «علانية» لتخفيف الضغط عليها شعبياً وداخل الحزب. وهو ما كان، ففى اليوم التالى للاتصال الهاتفى، غرد كاميرون على حسابه على «توتير» بأهمية الاتفاق كونه يؤمن بقاء حكومة ماى أمام برلمان متحفز لها ومعارضة تريد إسقاطها عند أول فرصة. لكن محاولات كاميرون تخفيف مرارة التحالف مع الحزب الوحدوى لم تفلح تماماً. وتقول عضوة حزب المحافظين ل«الأهرام»: «هناك داخل الحزب الكثيرون الذين يعتقدون أن ماى اتخذت قراراً خاطئاً. فهى لم تكن مضطرة للتحالف مع هذا الحزب. كان بإمكانها قيادة حكومة أقلية والاعتماد على منطق بديهى وهو أن الحزب الديمقراطى الوحدوى لن يصوت ضدها فى مجلس العموم. فالديمقراطى الايرلندى عدو ايديولوجى وسياسى شرس لحزب العمال. ومن المستحيل تصور أن يسقط حكومة محافظين كى يدخل جيرمى كوربن إلى داوننج ستريت». وتتابع:«الكثيرون فى الحزب يرون أن ماى أنفقت مليار جنيه استرلينى بلا داع. وعلى تحالف مع حزب يشوه سمعة المحافظين. فهذا التحالف لا يدمغنا فقط بالضعف والانتهازية السياسية، بل أيضا بالتضحية بالمبادئ من أجل مكاسب سياسية آنية.فالحزب الديمقراطى الوحدوى، الذى تأسس فى سبتمبر 1971، حزب يمينى بروتستانتى، موال للتاج البريطانى وداعم متحمس للملكية. وقد خاض غمار حرب سياسية طائفية دامية مع حزب «شين فين» هو حزب يمثل الأقلية الكاثوليكية فى ايرلندا الشمالية التى تطالب بالاستقلال أو الانضمام إلى جمهورية ايرلندا كما أنه حزب متشدد سياسيا. وبسبب توجهاته السياسية والايديولوجية، فقد رفض مثلاً اتفاق «الجمعة العظيمة» أو «اتفاق بلفاست» عام 1998، بين بريطانياوايرلندا الشمالية وجمهورية ايرلندا لتقاسم السلطات بين البروتستانت والكاثوليك لإنهاء الصراع الطائفى السياسى هناك وهو الاتفاق الذى دعمته معظم الأحزاب السياسية فى ايرلندا الشمالية. كما أن موقف «الحزب الديمقراطى الوحدوى» من الاتحاد الأوروبى ومن البريكست يثير امتعاض وغضب مؤيدى حزب المحافظين الذين صوتوا لمصلحة بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبى. فالحزب ساند بقوة خروج بريطانيا من الاتحاد. وباجندته الاجتماعية المحافظة، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة وحق الاجهاض، ينفر شرائح واسعة جداً من سكان المدن الكبيرة ومن الليبراليين، ومن النساء. وتلخص عضوة حزب المحافظين إشكالية حزبها بعد التحالف مع «الديمقراطى الوحدوى» بقولها:«خسارة الأغلبية فى مجلس العموم كانت كارثة بالنسبة لنا كحزب. لقد فقدنا السيطرة فى أكثر وقت نحتاج فيه إلى أغلبية فى مجلس العموم كى نمرر تشريعات صعبة. لكن التحالف مع الحزب الديمقراطى الوحدوى كارثة أكبر فى رأى الكثيرين داخل الحزب. إنها خطوة تعود بنا سنوات للوراء وتشوه سمعتنا كحزب عصرى. ولهذا لم يخرج الكثيرون من قادة الحزب يدافعون علانية عن ذلك التحالف السيئ السمعة. لجوء رئيسة الوزراء إلى كاميرون لدعم التحالف علانية علامة ضعف وعزلة». «سفينة قيادة» ماى لحزب المحافظين تغرق. والكثيرون ممن لديهم طموحات لزعامة الحزب والبلاد لا يريدون أن يرتبطوا بها سلبياً أو إيجابياً. فبعدما كان كل ما تلمسه يتحول ذهباً، بات كل ما تلمسه يتحول تراباً.