ثلاثة أصدقاء. اعتاد اثنان منهم أن يزورا ثالثهما للاطمئنان عليه. وكان يسكن في الدور الأرضي. ويطيب له أن يجلس في شرفة شقته. وكان يري منها بوضوح رجلا ليس شحاذا أو متسولا, يأتي إلي دكان بائع الفاكهة والخضار الملاصق لشرفته. ويبحث في مقطف يرمي فيه صاحب الدكان ما تلف من بضاعته. وينتقي بعناية ما يراه صالحا. ويمضي إلي حال سبيله. وذات يوم داهم الصديقين شعور بالقلق عندما لم يجدا صاحبهما في مسكنه. حدث ذلك ابان ثورة25 يناير2011, وهدهدا قلقهما بأنه ربما ذهب إلي أفراد من أسرته ليأتنس بهم. وصدق حدسهما. فما إن انتصرت الثورة بسقوط مبارك, حتي عاد إلي شرفته. وفاجأ صديقيه, عندما جاءا لزيارته, بقوله: لقد عاد الرجل. وبدا قوله غامضا. فلما استفسرا, حكي لهما عن الرجل الذي اعتاد أن ينبش عن الفاكهة والخضار التالف.. هكذا ينتهي المقال القصصي أو القصة القصيرة التي كتبها الروائي إبراهيم أصلان في جريدة الأهرام. {{{ وما أن قرأ الراوي ما كتبه إبراهيم حتي اعترته الدهشة والحيرة, أو بالأحري القلق علي مسار الثورة ومصيرها في ضوء الرجل الذي عاد. لكن إبراهيم اصلان كان قد نشر بالصدفة مقالا في صحيفة عربية يوم الثلاثاء25 يناير2011, وهو يوم اندلاع الثورة المصرية, عن الثورة التونسية. وكان عنوانه هي عربة خضار.. لاغير. واستهله بما حدث لمحمد البوعزيزي خريج الجامعة الذي أشعل النار في جسده احتجاجا وغضبا من ملاحقة الشرطة له, ومصادرة عربته التي يبيع عليها الخضار. ويسترزق منها. ويقول إبراهيم أن ذروة الأحداث التونسية بدت لي في حجرة صغيرة بمستشفي كان محمد يرقد علي سريره مكفنا بالشاش. بينما وقف الرئيس بن علي للتصوير في كامل لياقته, البدلة كاملة, والقامة الممشوقة, والشعر الفاحم, والابتسامة المصنوعة, وبدت لي اللقطة مكتفية بنفسها. فالحجرة الصغيرة كانت لائقة بقتيل. وليس بقاتل. وكأن محمد أدرك المغزي فأسلم الروح. حينئذ هب الشعب التونسي كله في ثورة جارفة. وختم إبراهيم مقاله باستدعاء الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي وقصيدته إرادة الحياة التي يقول في مطلعها. إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر وعلق بقوله ربما لم يأت يوم تجسدت فيه كلمات لشاعر عربي مثلما تجسدت كلمات الشابي كأنه كتبها لقومه, ولهذه الأيام طبعا. {{{ إبراهيم كان يستبشر خيرا بثورات الربيع العربي. وكان يدرك أن الثورة المصرية لن تؤتي ثمارها المرجوة إلا بالعدل الاجتماعي والديمقراطية. ولذلك أرقه الرجل الذي عاد. ولعل الرجل ظل يطارده ويؤجج مخاوفه حتي لفظ أنفاسه الأخيرة مع حلول الذكري الأولي لثورة25 يناير. وقتها كانت الثورة المضادة عاصفة وعاتية في محاولاتها البائسة لاعادة انتاج النظام السابق تحت لافتات مراوغة. وتجلي الانقسام والتشرذم بسبب مكائد شيطنة الثورة والثوار. واحتدم الصراع علي السلطة.. مجرد السلطة. ودعك من التأويلات والتفسيرات. ومن الأرجح أن إبراهيم أصلان كان مكدودا وحزينا. ومن الارجح أنه في عليائه لم يبال أو يهتم بالجائزة الأدبية التي فاز بها أخيرا. إن إبراهيم سيبقي مع كوكبة المبدعين والمثقفين من أبناء جيله قناديل تضيء دروب الوطن, وطن عبدالله النديم, وكل الشهداء والثوار وعابري السبيل. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي