فى خطوة قد تغير من خريطة الاقتصاد العالمى، توصل الاتحاد الأوروبى واليابان الأسبوع الماضى لاتفاق تاريخى للتجارة الحرة بعد أربع سنوات من المفاوضات، رافعين راية التبادل الحر فى مواجهة السياسات الحمائية التى يقودها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وفى مؤشر على أن أوروبا بدأت بالفعل التحرك تدريجيا نحو الخروج من عباءة الهيمنة الأمريكية رفضا منها لمواقف الإدارة الأمريكية الجديدة المثيرة للجدل تجاة قضايا التجارة والمناخ وحلف شمال الأطلنطى «الناتو» وغيرها والتى تؤدى من وجهة النظر الأوروبية إلى عزلة الولاياتالمتحدة. ويعد اتفاق «جيفتا» نصرا سياسيا واقتصاديا مهما لأوروبا واليابان، كما يثير الشكوك حول مدى تأثير الولاياتالمتحدة على أولويات الاقتصاد العالمي.
فبالنسبة للاتحاد الأوروبي، يشمل الاتفاق إلغاء نحو مليار يورو قيمة الرسوم الجمركية السنوية على السلع الأوروبية المصدرة إلى اليابان، بما يسهم فى تعزيز الصادرات الأوروبية من الأغذية والكيماويات والأجهزة الطبية. ويعطى الاتفاق الاتحاد الأوروبى أيضا زخما سياسيا خاصة بعد توصله لاتفاق تجارة حرة مشابه مع كندا فى أكتوبر الماضى، مما يصور أوروبا أمام العالم على أنها نصيرة سياسات الانفتاح والاقتصاد الحر والعولمة. أما بالنسبة لليابان، فالاتفاق يمثل تقدما فى طريق تأمين شروط تجارية أفضل أمام الشركات اليابانية فى الخارج، خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عقب فترة وجيزة من تنصيبه الحكم بالانسحاب من اتفاق المشاركة عبر المحيط الهادئ الموقع عليه 12 دولة من ضمنها اليابان. هذا الانسحاب الأمريكى دفع طوكيو إلى تسريع وتيرة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى التى بدأت عام 2013 حول اتفاق جيفتا، فى إشارة ضمنية على أنها لن تعتمد على الولاياتالمتحدة لكى تخرج من دائرة الركود وتراجع نمو اقتصادها خلال السنوات الأخيرة. ويغطى الاتفاق بين الجانبين - الذى يعد سوقا تضم 637 مليون شخص - نحو 28٪ من اقتصاد العالم، كما يتوقع أن يقفز الميزان التجارى بين اليابان والاتحاد الأوروبى مليارات الدولارات، خاصة أنهما حققا نحو 125 مليار يورو فى ميزان الصادرات والواردات عام 2016، فضلا عن أن الاتفاق له وزن اقتصادى كبير لكون الاتحاد الأوروبى الشريك التجارى الثالث لليابان واليابان الشريك التجارى السادس لأوروبا. وفى تأكيد أن العالم بدأ فعلا التحرك دون الولاياتالمتحدة لحل أزماته الاقتصادية الكبري، قالت سيسيليا مالمستروم المفوضة التجارية للاتحاد الأوروبى بعد محادثات فى طوكيو مع فوميو كيشيدا وزير خارجية اليابان : «من الممكن إبرام اتفاقات تجارة جيدة وعادلة وتتسم بالشفافية وقابلية الاستمرار بحيث يتحقق المكسب للطرفين وليس كما ترى الولاياتالمتحدة على مايبدو أن مكسب طرف هو خسارة للطرف الآخر». ويبدو أن قرارات الرئيس الأمريكى التى يعتبر أنها فى مصلحة الولاياتالمتحدة دائما ما يخرج من ورائها مستفيدون يكونون فى أغلب الأحيان من أكبر منافسى الولاياتالمتحدة، فإن تراجع التزام واشنطن تجاه حلف شمال الأطلنطى «الناتو» يصب بالتأكيد فى مصلحة روسيا، كما أن انسحاب واشنطن من اتفاقات التجارة الدولية سيصب دون شك فى صالح منافس أمريكا اللدود الصين التى تسعى أن لاتفاق مشاركة جديد عبر المحيط الهادئ تحل فيه محل الولاياتالمتحدة، فضلا عن استفادة بكين من انسحاب واشنطن من اتفاقية المناخ بعد أن أصبح المجال خاويا على الساحة العالمية لكى تظهر الصين بأنها أكبر المهتمين والملتزمين بمواجهة ظاهرة تغير المناخ، بما أنها هى والولاياتالمتحدة أكبر الدول المسببة للانبعاثات الحرارية فى العالم. ودون شك، فإن الصراع الآن حقيقى بين التمسك بالعولمة أو اللجوء إلى السياسات الحمائية والانصراف إلى شئون الداخل بعد أن تسببت العولمة لسنوات فى العديد من المشكلات العالمية فى مختلف المجالات. .. فأى كفة ستفوز فى نهاية المطاف؟