خلال الشهرين الماضيين شهد الوسط الاقتصادى جدلا حادا حول إجراءات المرحلة الثالثة من برنامج الإصلاح الاقتصادى و التى من المقرر تنفيذها مع بداية سريان الموازنة العامة الجديدة و ينطلق هذا الخلاف من مطالبات البعض بتأجيل المرحلة الثالثة لعملية الإصلاح بعد عام صعب جراء عدة قرارات كانت مؤثرة بشدة على الطبقة الوسطى والفقيرة ومنها تطبيق قانون القيمة المضافة ثم تحرير سعر الصرف و رفع أسعار الوقود و الطاقة و المحروقات بصفة عامة.. وعلى الجانب الأخر يرفض كثيرون هذا الطرح و يتخوفون من تراجع المعدلات الاقتصادية الكلية و أن يكون لهذا التأجيل آثار سلبية على مجمل نتائج برنامج الإصلاح و تطبيقاته و هم بالطبع يستندون فى ذلك إلى نظريات اقتصادية لها كفاءتها العلمية و الرقمية.. و مع ذلك الخلاف وبحكم ارتباطى الوثيق بالسوق المصرى من خلال قطاع تجارة التجزئة الذى هو مرآة كاشفة للنظريات الاقتصادية بأرقامها و دلالتها وهو أيضاً مرآة عاكسة للآثار الواقعية والعملية لتكلفة قرارات الإصلاح على المستهلكين وموازنة الأسر المصرية وهو ما يجعلنى مقتنعا تماماً برفض أى اتجاه للتخلى عن برنامج الإصلاح أو تأجيله فى المطلق و ذلك حتى لا نصبح أمام حالة تراجع ذاتى عن الإصلاح وصولا لحالة أصعب مما كنا عليه قبل بدايته و يصبح الدواء الذى نراه مرا حاليا مستحيلا فى مرحلة قادمة ولنا عبرة فى التراجع فى منتصف طريق برنامج الإصلاح فى أواخر السبعينيات و منتصف التسعينيات وهى تجربة مريرة لا يمكن تجاهلها لأنها كانت من الأسباب الرئيسية لتناول الدواء المر الآن و من ثم فإن فكرة التأجيل المطلق ليست مطروحة.. على الجانب الأخر لا يستطيع عاقل أن ينكر حجم المعاناة الهائل الذى تحملته شرائح كثيرة من المجتمع المصرى خاصة خلال العام المنصرم (2016/2017) والذى شهد اعلى معدل تضخم فى مصر و ارتفاعات متوالية غير مسبوقة فى أسعار كافة السلع و الخدمات.. وبين هذين الجانبين نجد أن الموازنة العامة للدولة محملة بالكثير من الأعباء خاصةً فى جانب الأجور و خدمة الدين و الدعم بما يعنى ان الدولة ليس لديها رفاهية الاختيار بل إنها فى موقف شديد الصعوبة نتيجة ندرة الموارد و انخفاض كثير من بنود الإيرادات العامة.. و من ثم فنحن أمام اقتصاد لا يملك التراجع عن الإصلاح و أمام مجتمع نشك فى استمرار قدرته على تحمل المزيد و أمام موازنة عامة مضغوطة بشكلً هائل و بناء عليه فان الحلول التقليدية ستمثل كارثة فى أيً من هذه الجوانب و لذلك يجب اللجوء لحلول ذكية تراعى هذه الأبعاد مجتمعة فيمكن تمديد الفترة الزمنية لبرنامج الإصلاح بما يسمح بتقسيم أعباء المراحل التالية على مدى زمنى اكبر يتم من خلاله العمل على تهيئة المجتمع والاقتصاد من خلال العمل على زيادة الموارد العامة للدولة بوسائل تتسم بالسرعة و الفاعلية خاصة فيما يتعلق بزيادة جانب المعروض من السلع والخدمات وبما يحقق توازنا سعريا مستداما فى الأسواق وتنشيط المجال السياحى وتحسين الأداء الاقتصادى بوجه عام تشريعياً وفنياً والقضاء على البيروقراطية ومعوقات انطلاق النشاط الاقتصادى بصفة عامة.. هذا على أن تتضمن هذه الفترة أيضاً الدخول بقوة إلى المناطق الشائكة والمؤجلة اجتماعياً مثل تفعيل منظومة الدعم النقدى وإعادة ترتيب أولوياته بما يضمن عدم تأثر الفئات والشرائح الأقل دخلاً باستخدام التقنيات الحديثة والمنظومات الأكثر حرفية والمتطورة على غرار منظومة الخبز الذكية والتى أوقفت إهدار مليارات من الجنيهات فى سلعة واحدة فقط هى القمح... وهذا بالطبع لا يعنى التراجع عن كافة الإجراءات بل إحداث نوع من التغيير الذكى زمنياً وفنياً فى تنفيذ خطة الإصلاحات بما يخفض ويوزع من أعبائها وتكلفتها خاصة على الفئات والشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً والأشد احتياجاً...