بعيدا عن الجولات الدبلوماسية المحمومة التى يقوم بها المسئولون القطريون إلى عواصم القرار غربا وشرقا، وبعيدا عن برامج قناة الجزيرة الزاعقة، وكذلك بعيدا عن التحركات الانتهازية لكل من طهران وأنقرة وعواصم غربية أخري.. فإن المشهد السياسى العربى بعد الأزمة القطرية يفرض عدة حقائق واضحة لا فكاك منها.. أولى هذه الحقائق هى أن المهلة التى وضعتها دول المقاطعة ستنتهى غدا الإثنين، وهو اليوم الذى لن يمر مرور الكرام، فالأزمة القطرية بعد انتهاء المهلة بكل تأكيد لن تكون هى ذاتها قبلها. وثانية هذه الحقائق أن خيار الهروب إلى الأمام الذى يبدو أن الدوحة قد لجأت إليه فى مواجهة مطالب شقيقاتها فى مجلس التعاون الخليجى ومصر، لن يزيد الأزمة إلا تعقيدا، وأيضاً لن يؤدى بالجميع إلا نأيا عن الحلول العربية العربية، فالاستعانة بالمدد الإيراني.. والاستقواء بالقاعدة العسكرية التركية فى الدوحة يلقيان على طاولة الأزمة بعوامل تعقيد شديدة لقضية كان ومازال من المفترض ألا تتجاوز النطاق العربي، وأيضا من المفترض أن تولد حلولها من داخل المنظومة العربية. وثالثة هذه الحقائق التى لايجب إغفالها هى أن واشنطن ما فتئت تبعث برسائل متضاربة حيال أزمة قطر، فالرئيس دونالد ترامب يصدر ويروج تصريحات تميل إلى معسكر الدول المقاطعة وترضيه، هذا فى الوقت الذى يصدر وزير خارجيته تصريحات تطرب لها الدوحة، فى الحقيقة أن واشنطن بتصريحاتها المتضاربة تلك حول أزمة قطر، هى بلا شك الرابح الأكبر من مثل هكذا خلاف وصراع، ولايمكن قراءة صفقة ال12 مليار دولار التى أعلن عنها بعد بداية الأزمة بأسبوع بين واشنطنوالدوحة لتزويد الأخيرة بطائرات اف 15 إلا دليلاً ناصعاً على الأطراف الرابحة والأطراف المرشحة للخسارة فى هذه الأزمة.. أما رابعة الحقائق، فهى أن عدم استجابة الدوحة لقائمة المطالب المطروحة عليها، سيدفع بالأمور ودول المقاطعة إلى إقصاء الدوحة أولا من سياقها الخليجي، وثانيا من سياقها العربى بالضرورة.. خامسا: ان قائمة المطالب التى حملها الوسيط الكويتى ما كان ينبغى لقطر أن تقوم بتسريبها لوسائل الإعلام، حيث ان هذا التسريب قد عقد كثيرا من المهمة النبيلة التى اضطلع بها أمير الكويت الذى يسعى مخلصاً إلى لملمة شتات أطراف الأزمة التى ضربت المشهد الخليجى والعربي، ولا شك فى ان تسريب الدوحة للقائمة قد أضاف إلى أخطائها خطأ آخر جسيما، فالوساطة المحمودة كان ينبغى أن توفر لها الأطراف جميعا المناخ الإيجابى الصحى الذى يؤدى إلى إنجاحها. سادسا: ان خسائر الشعوب العربية بشكل عام والشعوب الخليجية بشكل خاص وفى مقدمتها الشعب القطرى هى خسائر كبيرة وفادحة، وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لا نبالغ إذ قلنا إن هذه الخسائر مرشحة للزيادة طالما استمرت الأزمة. سابعا: ان استفزازات الدوحة التى بدأت منذ عقدين من الزمان، والتى تصاعدت إلى ما وصفته العواصم المقاطعة بالتآمر على أمنها واستقرارها، الأمر الذى نشرته مصادر سعودية من تسريبات للمكالمات، التى دارت بين أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة والزعيم الليبى الراحل معمر القذافي، وكذلك من صور الشيكات الصادرة من ديوان الحكم فى الدوحة إلى المعارض السعودى سعد الفقيه اللاجئ فى بريطانيا، والتى تشير إلى المؤامرة التى كانت تهدف إلى تنفيذ محاولة اغتيال الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز وعدد من كبار رجال الحكم فى المملكة.. هذه التسريبات المخيفة ألقت على مشهد أزمة قطر بظلال قاتمة إضافة إلى الأدلة الأخرى التى تدين الدوحة. ويبدو أن تلك التسريبات والأدلة التى وصلت إلى الرياض، هى السبب أو أحد أهم الأسباب وراء ذلك التغيير الدرامى فى سياسات الرياض وفى طريقة تناولها للملف القطري.. وأخيرا يبدو جلياً أن صبر الأنظمة العربية المقاطعة لقطر قد نفد بسبب عنادها وسياساتها المعادية.. وإصرارها على إيواء وتمويل العناصر المعارضة لعدد من أنظمة الحكم العربية، سواء كان ذلك اليواء والدعم والتمويل فى الدوحة أو تركيا أو فى غيرهما، ويبدو أنه لم يعد أمام القاهرةوالرياض وأبوظبى والمنامة سوى المواجهة الحاسمة مع الدوحة. وأخيراً وليس آخراً، فإنه يجب الإشارة هنا إلى الضرر البالغ الذى حاق بمنظومة مجلس التعاون الخليجي، فالمواقف والسياسات القطرية التى قادت إلى هذه الأزمة المتصاعدة قد ألحقت ضررا بالغا بهذا المشروع الوحدوى الخليجي، الذى كان بمثابة نموذج يمكن أن يتطور إلى إنجاز عربى وحدوي. اليوم، نجد أن الخيارات المتاحة أمام أطراف الأزمة قد ضاقت كثيراً عما كانت عليه من قبل، وبدأت ساعة الحسم تدق بقوة، فقد حان وقت القرارات الصعبة التى لا مناص لها أمام حكام قطر الذين يقتربون كثيراً من التجرع من ذات الكأس المر الذى طالما تجرعته شعوب أخرى نتيجة تدخلاتهم وسياساتهم السلبية، ولا نبالغ حين نقول : إن الدوحة تدفع اليوم ثمن قيامها بأدوار أكبر بكثير من حجمها امس وأول من أمس. وتشير الشواهد إلى أن الوقت بدأ يتسرب من أيدى الدوحة، تلك العاصمة التى إن لم تدرك أبعاد الحقائق السابقة وخطورة الموقف، فإن أزمتها مع جيرانها وشقيقاتها مقبلة ومرشحة لاتخاذ إجراءات غير مسبوقة.. والخوف كل الخوف أن تدفع الدوحة بعنادها المشهد كله إلى ما لا تحمد عقباه، قطريا وخليجيا وعربيا.