أبعث إليك برسالتي وكلي أمل في أن تجد لي مخرجا من معاناتي التي تفوق الوصف من الذل والهوان علي مدي تسعة عشر عاما, وسأحاول جاهدة التركيز في كلماتي قدر استطاعتي. فأنا سيدة في الخامسة والأربعين من عمري وحاصلة علي ليسانس الآداب في اللغة الانجليزية وأعمل في جامعة خاصة, ووالدي أستاذ بها, وحرص منذ طفولتي علي أن يربطنا بأهلنا في الريف, واستطاع بعلاقاته الشخصية أن يحصل لوالدتي موجهة اللغة الفرنسية علي إعفاء من أعمال الامتحانات لكي تذهب بي وبشقيقي وشقيقتي لقضاء العطلة الصيفية سنويا عند جدي, فنتواصل مع أهلنا, وتتوطد علاقات المودة والصداقة بيننا. وكنا نلعب ونلهو مع أبناء أقاربنا وبمرور الأيام لاحظت اهتمام ابن عمتي بي خلال وجودنا في البلدة, وفي زياراته المتكررة لنا, وحرصه علي قضاء كل متطلباتنا, وتوسمت فيه الشهامة والمروءة, وكبرنا وكبرت معنا أحلامنا وحدثني أنه يأمل في أن أكون زوجته وشريكة حياته, فوجدتني أبادله نفس الإحساس, ورأيت فيه فتي أحلامي, ولم أعبأ بفوارق البيئة والنشأة بيننا. وما إن أوشكت علي التخرج حتي تقدم لخطبتي دكتور مهندس جيولوجي فرفضه أبي لغروره بعمله, ثم تقدم لي أستاذ بإحدي الجامعات وكان يحظي بثقته وإعجابه, حيث أنه هو الذي حثه علي مواصلة دراساته العليا حتي نال درجة الدكتوراه, لكنني لم أرتح اليه فرفضته, وتمسكت بابن عمتي الذي كان قد تخرج وقتها في كلية التجارة, وحذرني والدي من زواج الأقارب مؤكدا لي أن سلبياته كثيرة إلا انني أصررت علي الارتباط به, وكانت حجتي وقتها هي المثل الشائع اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش!.. ورضخ والدي مرغما لرغبتي, وألحقه بوظيفة في الجامعة نفسها التي أعمل بها, وبمرتب لم يكن يحلم به, ولم يدخر وسعا في مساعدتنا علي تجهيز عش الزوجية وأعد لنا شقة للسكن عشنا فيها خمسة أعوام لم يتحمل ابن عمتي خلالها مليما واحدا.. وما إن بدأت حياتي الزوجية معه حتي بدأت الأقنعة الزائفة التي كان يتخفي وراءها تتساقط يوما بعد يوم, وبرغم أنه كان التجربة الوحيدة بالنسبة لي فإنه ظل يسألني وبتهكم شديد مفيش بنت ملهاش ماضي.. عايز أعرف ماضيكي, فأغلظت له الإيمان بأنني لم أعرف غيره, لكنه لم يصدق إلا أوهامه وهواجسه, وأخذ يبحث في أوراقي الشخصية, وأرقام التليفونات التي أدونها في هاتفي, فربما يجد ما يؤكد شكوكه, ولكن خاب ظنه, وتكشفت لي صفاته السيئة, فهو حاد الطباع, عصبي المزاج, سريع الانفعال لأتفه الأسباب, مثير للمشكلات, كثير الكلام فيما لا يفيد, ولا يعرف غير الذم في الآخرين حتي أقرب الناس إليه, وإلي جانب هذه المساوئ بخيل ومقتر في الصرف علي متطلبات الأسرة, علاوة علي أنه شخصية ودنية. وهكذا وجدت أن كل خصاله تباعد بيني وبينه, فكتمت أحزاني, وواصلت حياتي معه عسي أن يتغير, وبرغم أنه يتقاضي مرتبا كبيرا فإنه لا يصرف علي الأسرة سوي المصروفات الضرورية, أما الكماليات ودروس الأولاد الخصوصية والملابس التي تليق بمستوي الأسرة فإنني أتحملها بالكامل, وإذا عزمت أهلي فإنني أنفق علي العزومة من مالي الخاص وحتي عندما يطلب مني الأولاد وجبات جاهزة وأطلب منه شراءها لهم علي حسابي فإنه يغالي في ثمنها, ويقول لي بكل بجاحة انه أخذ ثمن بنزين السيارة حتي لو كانت المسافة لا تزيد علي كيلو متر واحد! وبرغم ما قدمه والدي له, فإنه لا يذكره إلا بالسوء, وينعته بأحط الألفاظ ولا يلقي بالا لمشاعري تجاه أبي الذي يشهد له الجميع بدماثة الخلق, ويحظي بحب واحترام أعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعة. لقد تفجرت الخلافات بيننا منذ الشهر الأول للزواج ولم يمر يوم واحد دون شجار, ووصل الأمر الي حد عقد جلسة عرفية كل عدة أيام, وكانت الجلسات تنتهي بالحكم لي وإدانته, وتعهده كتابة بعدم تكرار أخطائه, وللأسف فإنه في كل مرة تتغلب عليه طبيعته فيعود إلي شجاره أشد شراسة, خاصة بعد أن لاحظ تعلقي بأولادي, ولذلك تخيل أنه مهما فعل بي فلن ألجأ إلي طلب الانفصال. لقد صبرت عليه صبر الجمال, وتحملت ما لا يتحمله بشر من أجل أبنائي, لكنني وصلت معه إلي طريق مسدود وأيقنت أنه حالة مستعصية ووصل الأمر إلي إصابتي بانهيار عصبي, وذهبت إلي البلكونة لإلقاء نفسي منها حتي أتخلص من جحيمه فمنعني الجيران, وأنقذوني في آخر لحظة, واتصلوا بشقيقي, فجاءني مندهشا ومضطربا, واصطحبني الي منزل العائلة.. وعند هذا الحد أصررت علي طلب الطلاق, ومع أن لدينا الكثير من المستندات التي تدينه ومحاضر الجلسات العرفية, فإن والدي رفض رفضا قاطعا اللجوء الي المحاكم, حفاظا علي العلاقات العائلية, ووجدها زوجي فرصة للتنازل له عن كل شيء مقابل تطليقي, والأدهي من ذلك أنه طلب مني التوقيع علي إقرار بأن أقوم برعاية أولادي صحيا واجتماعيا وتعليميا, ولا أطالبه بالصرف عليهم, فوافقت علي طلباته حتي أتخلص من الكابوس الذي جثم علي أنفاسي طوال تسعة عشر عاما, وحتي الأثاث والأجهزة التي اشتريتها علي نفقتي الخاصة رفض تسليمها لي. وهذا قليل من كثير من معاناتي مع الرجل الذي فضلته علي من هم أكثر منه علما وخلقا, وكان جزائي هو أن أعيش معه سلسلة من النكد اليومي حولت حياتي الي جحيم يفوق جحيم دانتي في الكوميديا الالهية, وهنا أجبرني علي اتخاذ القرار الصعب بعد طول تردد.. إنني لم أتجن عليه في كل ما ذكرت.. والله خير شاهد علي كل ما جاء في رسالتي, بل إن هناك سلوكيات أخري وجدت حرجا بالغا في أن أذكرها لكم. لقد مضت ثمانية أشهر عشتها في كنف والدي, هادئة البال, مرتاحة الفؤاد, أنام ملء جفوني بعد أن عانيت السهر والأرق والعذاب خلال سنوات الهوان, وتحليت بالصبر حتي تبدد أملي, وضاق صدري بما لا يقال, وشتان بين حياتي معه, وحياتي بعده, فالفرق بينهما كالفرق بين الجحيم والجنة. وكلما تذكرت ما فعله بي أكاد أصاب بالجنون, ويزداد إصراري علي اللجوء إلي القضاء لكي أسترد الأثاث والأجهزة التي اشتريتها من مالي الخاص. وأجبره علي الصرف علي أولاده, لكن والدي يمنعني رافضا بشدة هذا الاتجاه, ثم فوجئت بأن مطلقي حرر بلاغا ضدي في الشرطة بأنني تركت له الأولاد, وأنه هو الذي يتولي رعايتهم منذ الانفصال, ولا أدري كيف يفعل ذلك ولماذا؟.. إنني أسألك: أليس من حقي وفقا للشرع والقانون أن أحصل علي حقوقي وحقوق أولادي الضائعة من منطلق أن أي قرار توقعه الزوجة وهي مكرهة تحت ضغط الحاجة إلي الخلاص لا يعتد به.. أم ماذا؟ وعلي جانب آخر فإن أبي قلق علي مستقبلي, وعرض علي.. إما القبول بزوج آخر تقدم لي, أو أن أعود إلي جحيم مطلقي مرة أخري.. أمران كلاهما مر, فلا يمكن لمن اكتوي بنار جهنم أن يعود إليها من جديد.. ولا أريد تكرار التجربة مع زوج ثان يتحكم في وفي أولادي, فلقد وهبت ما تبقي لي من عمر في سبيل رعايتهم لكنني في حيرة من أمري.. فأي الطرق أسلك؟.. بصرني بصرك الله بكل ما هو طيب. .. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: الأفضل دائما أن نضع النقاط علي الحروف منذ البداية, فإذا كنت قد لمست منذ الشهر الأول للزواج خصاله السيئة, فقد كان الأحري بك أن تتوقفي لتعيدي حساباتك معه, فإن رجع والتزم أمامك بألا يعود إلي ما اقترفه في حقك من أخطاء, وأوفي بعهده, فعليك برأب الصدع ومواصلة المسيرة, وإذا لم يوف بما قطعه علي نفسه تكون لك وقفة أخيرة تقررين بعدها الانفصال إيثارا للسلامة, لكن أن تتركي له حياتك يتصرف فيها كما يشاء, فتمضي في صورة تنازلات من جانبك, وطلبات لا تنتهي من جانبه, فهذه سياسة مصيرها الفشل والطلاق, ولكن بعد أن يكون الأولاد قد كبروا, ويصبح الانفصال خطيرا عليهم, إذ سوف يتشتتون بينكما, وبالتأكيد ستكون لكل منكما حياة خاصة, ففي مثل هذه الحالات يتزوج الأب, وقد تجد الأم نفسها مضطرة للزواج, والاستقرار مع شريك حياة آخر, وهنا تصبح تربية الأولاد مشكلة مستعصية علي الحل. لقد كنت ياسيدتي بسيطة وراضية وقانعة بابن عمتك الذي لم تعرفي غيره, ولم تريدي زوجا سواه, برغم العروض المناسبة التي كانت متاحة لك, ويحضرني هنا قول أوسكار وايلد: هناك نوعان من النساء, الأول سهل وبسيط, والثاني مطلي بالألوان الزاهية, وأنت من النوع الأول, وخبرك ابن عمتك وعرفك منذ الطفولة, ولم يجتهد في أن يعرف خباياك التي كانت واضحة أمامه بلا زيف ولا خداع, وعندما ارتبط بك كان يدرك جيدا أنك بلا تجارب, بدليل أنه عندما فاتحك في الزواج وافقت علي الفور, وعرف برفضك من تقدموا إليك طالبين يدك من أجله, لذلك عندما سألك عن ماضيك كان يبحث عن قشة يتعلق بها لإضعافك ثم الضغط عليك لكي تسيري علي الخط الذي رسمه لك. وهذا النوع من الرجال لا يفكر إلا في نفسه, ولو أنه صادف فتاة مطلية بالألوان الزاهية لانجذب إليها ووقع فريسة لها. والواضح أنه ارتبط بك ليس من باب الحب, ولكن من نافذة المصلحة طمعا في الوظيفة, وأموالك وأموال أبيك, فلما أحس بأنه لن ينال ما كان يبتغيه بدأ في إثارة القلاقل والمتاعب لك, وأوصلك إلي طلب الانفصال بأي ثمن, فوقعت له إقرارات بإعفائه من مصاريف الأولاد والأثاث والأجهزة التي اشتريتها من مالك, وتحقق لك ما أردت, فلا تعودي إليه, لأنه سوف يكرر مآسيه معك, إذ ليس سهلا علي الإنسان أن يغير طباعه التي تلازمه مدي الحياة, ولا مانع أبدا من الارتباط بمن رشحه لك والدك إذا درست ظروفه جيدا وأيقنت أنه مناسب وأنك تستطيعين مواصلة الإبحار معه, بشرط أن يعلم أن أولادك سوف يعيشون في كنفك خلال فترة الحضانة, وأنك لن تفرطي فيهم تحت أي ظرف من الظروف. أما الحصول علي حقوقك التي تخليت عنها بإرادتك فبإمكانك أن ترفعي دعوي أمام المحكمة للحصول علي نفقة الأولاد, ولا قيمة للإقرار الذي وقعته علي نفسك مرغمة بالتنازل عن نفقتهم لأنك لا تملكين حق التنازل عما لا يخصك, وسوف تحكم لك المحكمة بذلك, وأما بالنسبة للأثاث والأجهزة فإن من صرفت معظم أموالها علي بيتها وأولادها لن تنتظر ثمن بضعة أجهزة, فركزي جهودك فيما يخص أولادك, وسوف تحققين ما فيه مصلحتهم, وفقك الله وهداك إلي ما فيه الخير, وهو علي كل شيء قدير.